في العصر الذي يتناسل فيه الإعلاميون مثل النمل؛ من الصعب أن توقف انزلاق الريموت بين القنوات طالما أنك تبحث عن غذاء لعقلك وراحة لعينيك وأحلامك المستطابة.. هذا الزمن مملوء بالألوان، والضحكات، وكذلك بالتهريج المنظم، ولذلك فليس أمام الجادين والمغرمين بالعقلانية إلا أن يتوقفوا أمام «حديث الخليج» لأنه يحترم عقولهم ويطرح أفكارهم بتجرد، وتواضع كبير.. في البدايات المتشابهة حد الوجع؛ لابد أنهم حذروه من بلاد الفرنجة، ولابد أنهم قرأوا في أذنيه كل التعاويذ الممكنة التي تصده عن شهواتها وملهياتها المتخيلة، ولابد في المقابل أنه اكتشف بنفسه أن نصف النصيحة دائماً هزيمة ناصح، وربما هي تعبيره الذاتي المسموع عن خيباته هو وعقده المزمنة مع الحياة، وما أكثر الناصحين الذين يعانون من عدم اكتمال النضج؛ لكن رغم النصح والتبكيت المعتاد استطاع سليمان الهتلان أن يصبح من الوجوه القليلة جداً على الشاشة التي تجعلك تفخر أن المحاور سعودي، وأنه ينتمي إلى ثقافتك وإلى أهلك الطيبين، وكم من محاور «متفذلك» خرج ذات انفلات قيمي فتمنيت أنه بقي بعيداً عن أنظار العالم، وأنه لم يحمل ثقافتك لأنه كان ينوء بها حتى استوى بك وبها على وجهها الأقبح!! الثقافة رافد أساسي لأي مذيع فما بالك حينما يضيف إليها القدرة على الكتابة بشكل عقلاني وجذاب؟ لحظة لا تتهوروا رجاء فهذه ليست كل المفاتيح، وها أنتم ترون الكتبة الذين يقتلون أنفسهم على الشاشة كي يرضوا فضول الحضور.. المفتاح الأكبر والأهم أن تكون مؤدباً وأن تحترم ضيوفك وتستدرجهم إلى البوح باسترخاء، وهنا يظهر ويتفوق حامل المفتاح الجميل سليمان الهتلان. حينما غادر سراة عبيدة كانت تنتمي بكل كينونتها وتراثها إلى مفتاح «07» وسيعود إليها وقد أصبحت راشدة ومتطورة كما يظن ذلك العادون برقم «017» إنها عشرة أرقام كاملة تضاف إلى رصيد أهل السراة وما جاورها، وعلى سليمان وغيره حساب المسافة، وقياس درجة هبوب الرياح، وضحكة الحقول السمراء حينما يرشها المطر، ويطرقها الزير والزلفة، ومواعيد الاشتهاء في «منادر» بيوت الحجر؛ عشرة أرقام تضاف إلى مفتاح منطقة.. فارق مدهش!! أهل السراة موعودون دائماً بحقل راو، وبئر في «الحضن» وطروق رعاة عاشوا سيرة القرى وحكايات صباها، ولذلك فكل سروي يعيش حياته ليحكي ويرتل القصص التي ارتوى بها، ويعيد إخراجها من جديد، وفقاً لسرب الحضارة التي توصل إليه مع رفاق العمر والمسيرة، وسليمان الهتلان ينتمي لهذا السرب الجنوبي الراشد؛ فالأرض الصانعة لا تتوارى أبداً ولا تغيب إلا لكي تنجز، ولا تتحرف إلا لقتال فكرة وترويضها لتدخل مع النافذة على الأقل!! بعد نكبة الإرهاب في العشرية الماضية كان الهتلان كاتباً مميزاً يحاول مع كثيرين تفكيك الظاهرة الشوهاء؛ يومها لم يدرك الجنوبيون أن هذا الفتى المتعلم والواثق من كلماته هو ولدهم، وابن بيئتهم وحامل جيناتهم المكثفة وإن اختلفت اللغة وتضاريس الملامح؛ كانوا يتساءلون بدهشة ماذا يقول ولمن يكتب؟ لقد فاتهم أن بلاد الفرنجة تعيد استصلاح جيناتنا وتضخها بالحياة والديمومة، وأن الجينات المبدعة/ المتمردة لا تحتاج إلا لدفعة تنوير بسيطة كي تصبح جاهزة لقطع المسافات الطويلة وطي المضامير بوقت مريح وآمن.. سليمان الخلوق جداً يقول في إحدى تغريداته (لنختلف في السياسة أو الفكر أو الرؤية الاختلاف من سنن الحياة لكن لا تعبر عن اختلافك في الرأي بالقطيعة أو الخصومة) هذه سمات مؤدبة جداً من الصعب أن تجدها إلا في تلك الأطوار العالية التي يغسلها الضباب ويرشها المطر بانتظام.. أما سليمان المثابر فهو يختصر خلاصة الحلم في هذه التغريدة (بادر فكر خارج الصندوق اعمل بجد ثم حافظ على تفاؤلك وبعدها اشكر ربك على نعمة الإنجاز).. لقد كشف تماماً عن جينات الفلاح الذي يطلب الله رشداً وسعة؛ ثم يهوي بمسحاته على الأرض فيتفتق النور وتزهو السنابل.