أثار القرار الذي اتخذته الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان) بشأن اعتماد قانون يقضي بتجريم إنكار وقوع إبادة جماعية تعرض لها الأرمن على يد الأتراك العثمانيين في الفترة من عام 1915 وحتى عام 1918، كثيراً من الجدل على المستويين القانوني والسياسي. فقد نصّبت الجمعية الوطنية الفرنسية نفسها حكماً على التاريخ وأحداثه، بصفة انتقائية وعنصرية، وبطريقة لا تمت إلى حقائق التاريخ المعاصر بصلة، بينما تغافلت الجمعية الوطنية الفرنسية، في شكل متعمّد، عن الجرائم البشعة المنكرة التي ارتكبتها الجمهورية الفرنسية في كثير من الدول التي استعمرتها، وأذلّت شعوبها، وقهرت إرادتها، واستنزفت مواردها الطبيعية، وبخاصة في الجزائر التي ارتكب فيها الفرنسيون جرائم ضد الإنسانية وشنّوا حروب إبادة لا يمكن إنكارها، وكذلك في الهند الصينية (الفيتنام)، وفي أفريقيا الغربية حيث «أبادت فرنسا المدنية والحضارة» قبائل أفريقية بكاملها، واستعبدت شعوباً أفريقية، وتعاملت معها كحيوانات في الغابة. كل ذلك حصل بعد الثورة الفرنسية التي ملأت الدنيا ضجيجاً بالشعار الذي رفعته وبالإعلان الذي صدر عنها والذي يحمل عنوان «إعلان حقوق الإنسان والمواطن»، والمقصود هنا «المواطن الفرنسي»، و «حقوق الإنسان الفرنسي»، لا غيره من مواطني الدول التي استولت عليها باريس بقوة الحديد والنار، وفرضت عليها احتلالاً غاشماً دام عقوداً. إن القرار الذي أصدرته الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان) يتعارض كليةً مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومع ميثاق اليونسكو، ومع مبادئ الجمهورية الفرنسية، ومع الدستور الفرنسي، ومع القيم الفرنسية الليبرالية؛ لأنه يحظّر حرية التعبير وتقاليد البحث التاريخي الأكاديمي، ولأنه يحجر على المفكرين والباحثين بقانون مجحف غاية الإجحاف، ممارسة حريتهم في البحث التاريخي المجرد. وحتى إذا سلّمنا جدلاً بأن قضية «إبادة الأرمن» المزعومة قد وقعت، في أي شكل من الأشكال، في العقد الثاني من القرن العشرين، ففي تلك الفترة كانت الإمبراطورية العثمانية في رمقها الأخير تزحف نحو الانهيار والسقوط اللذين تمّا فعلاً في تشرين الأول (أكتوبر) 1923، حينما قامت الجمهورية التركية. وبعد ذلك بشهور، وفي آذار (مارس) 1924 أُلغيت الخلافة العثمانية، وطرد عبدالمجيد الثاني، آخر خليفة عثماني، من البلاد منفياً إلى أوروبا. وهذا يعني أن ما يدّعيه واضعو القانون الانتقائي هذا من إبادة للأرمن الذين كانوا جزءاً لا يتجزأ من الشعب العثماني ذي الأجناس والأعراق والأديان والملل والنحل، باطل من الأساس. كل ذلك قد حدث في عهد الإمبراطورية العثمانية التي سقطت وانهارت وقضي عليها بموجب معاهدة لوزان التي وقّعت بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى في 24/7/1923، والتي اشترطت في بنودها، ومن أجل الاعتراف بالجمهورية التركية، إلغاء نظام الخلافة بالكامل. فكيف تحاسب الدولة التركية المعاصرة، على وقائع يفترض أنها حدثت في عهد الدولة التي قامت هي على أنقاضها؟ كيف تُحمّل إذاً الجمهورية التركية وزر السياسة التي اعتمدتها الإمبراطورية العثمانية، على افتراض أنها اعتمدتها فعلاً؟ يروي لنا التاريخ المعاصر أن الإمبراطورية العثمانية قد تعرضت إبان الحرب العالمية الأولى، إلى زحف من الإمبراطورية الروسية، وأن المواطنين الأرمن العثمانيين كانوا قد تمردوا ضد السلطات الوطنية، بدعم من الروس وبتحريض منهم، فارتكبوا مذابح فظيعة ضد مواطنيهم من المسلمين ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من الأكراد في المدن والقرى شرقي الأناضول، وأن حرباً صليبية جديدة قامت في تلك المنطقة، بدعم كامل من الجيش الإمبراطوري الروسي الطامع في ابتلاع مناطق من الدولة العثمانية. وأمام هذا الوضع لم يكن أمام السلطات العثمانية إلا أن تتدخل بالقوة لوقف تلك المذابح ولحماية مواطنيها من الإبادة الفعلية، مما أدى بها إلى إجلاء كثير من الأرمن من مواقعهم التي كانوا يعيشون فيها، إلى المناطق التي كانت تعرف ب «الولايات العربية». والغريب أيضاً في هذا القانون الانتقائي العنصري، تجاهله المجازر التي ارتكبها الأرمن ضد سكان ناقورنو كاراباخ الآذربيجاني، وأشهرها مجزرة خوجالي في 25 شباط (فبراير) 1992، عندما قامت قوات مسلحة أرمينية تدعمها ميليشيات غير نظامية وتساندها قوات روسية، بإبادة سكان هذه القرية، حيث بلغ عدد القتلى في ذلك اليوم 613 شخصاً، منهم 63 طفلاً و106 إمرأة و70 من كبار السن، وقامت تلك القوات بالتمثيل بجثث القتلى وتقطيعها بطريقة وحشية. وقد أحسنت صحيفة «لوموند» الفرنسية (23/12/2011) التعبير حينما قالت إن (اختبار القوة الذي تجريه باريس في الوقت الراهن مع أنقرة على خلفية قضية الأرمن هو عبث). ثم تساءلت الصحيفة: لماذا إذاً هذا القانون في هذه اللحظة؟». وأجابت عن هذا التساؤل بقولها: «بالطبع لاعتبارات انتخابية، فهو قانون انتهازي، وليس الغرض منه الاهتمام بذكرى الماضي المأسوي لهذه الطائفة، أو تلك». وهذا رأي سليم، يعبّر عن الموقف الصحيح إزاء هذا القرار المجحف الذي يتعارض مع الحقيقة. فرنسا التي لها سجل أسود في مجال حقوق الإنسان في القرن العشرين، والتي كانت لها سياسة عنصرية استبدادية ظالمة للشعوب مجحفة بحقوق الإنسان، ما كان لها أن تقف هذا الموقف المريب من الجمهورية التركية التي قطعت اليوم أشواطاً بعيدة في التحول الديموقراطي والتصالح مع ثقافتها وحضارتها ومع الإقليم الذي تنتمي إليه، وفي الانفتاح على العالم، وفي الاقتراب من أوروبا بتطبيق معايير كوبنهاغن والتكيف معها. لكن الاعتبارات الانتخابية الفرنسية تفوقت على قيم حقوق الإنسان، ومعايير النزاهة الفكرية، والرؤية الشاملة لقضايا التاريخ، والتعامل معها بموضوعية وإنصاف. أما الأمر المضحك والمبكي في هذه القضية، فهو إعلان إسرائيل عزمها إصدار قانون مماثل للقانون الفرنسي! إسرائيل الصهيونية التي ارتكبت أفظع المجازر وحروب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني، والتي لا تزال تحتل أرضه وتعبث بمقدساته وتدمر مزارعه وتسجن عشرات الآلاف من أبنائه وتعذبهم، وتبني المستعمرات في كل شبر من أراضيه المحتلة، وتنتهك كل القوانين الدولية والقيم والمبادئ الإنسانية، إسرائيل ذات السجل الإجرامي الأكبر في تاريخ الإنسانية، تُصدر قوانين ضد الإبادة! صدق من قال: «إذا لم تستح فاصنع ما شئت». إنه حقاً عالم غريب تحار فيه عقول الأسوياء. * أكاديمي سعودي