لا يكتب الكاتب لكي يستعرض. الكتابة متعة، كما هي القراءة، لكنها متعة باهظة الثمن. حين سئل إمبرتو إيكو في أحد لقاءاته إن كان سادياً استعراضياً يحشد كل طاقته المعرفية وأدواته الكتابية لكي يرغم القارئ على الاعتراف بجهله، أجاب بأنه ليس كذلك و«القارئ هو الحكم». أمر طبيعي أن يمنح إمبرتو إيكو قارئه مكانة مركزية وهو صاحب الفلسفة التأويلية المنحازة دائما إلى القارئ. ولا يقل عن ذلك بداهة أن ينأى بنفسه عن تهمة الاستعراض، فغزارة إنتاجه واهتماماته الموسوعية المتعددة انعكاس مباشر لخاصية أساسية هي الاستمتاع بالنص. إيكو يرافق النص أينما حل، كل لحظة من لحظاته انهمام ثقافي وفكري ومتعة قرائية خالصة، يقول لنا إن حياة الكاتب حياة النص، حياة معبأة بالاقتباسات، حياة النص تكره الفراغ تماماً كما هي الطبيعة في نظر أرسطو. على هذا النحو يقوم إيكو بتعرية الاستعراضي، لا يمكن للمبدع والمفكر أن يستعرض ويتباهى، ذلك ديدن المفلس والخاوي الذي لا ينفك يجوب الصفحات مستعرضاً ذاته في كل موقع تواصلي يكثر فيه الغش والتدليس والخديعة. لا يغالي إيكو في استعداء مواقع التواصل الاجتماعي، التي ستمثل مواطن ريبة لكل كاتب مهجوس بالنص، لكنه لا يصل بالعداوة إلى بغض وكراهية شديدة كالتي عند الروائي الألماني «غونتر غراس» الناقم بشدة من كل ما يمت بصلة إلى فيسبوك وتويتر، فهي على حد قوله تعج بالهراء والسخف. بين ارتياب إيكو والتطرف العدائي لغونتر غراس تتكشف كل حالات الزيف لمثقف استعراضي يدع النص وحيداً ليتحفنا بما طاب له من خواء وسخف. نماذج الاستعراض وخصائصه أكثر من أن تعد، إلا أنها تتلاقى في خاصية التناشز بين اللقب الكبير والمضمون الضئيل، يهوى المثقف الاستعراضي العناوين العريضة والألقاب السمينة، تحتشد الألقاب من كل نوع أمام اسمه: مثقف وشاعر وحقوقي وكاتب عمود وناقد أدبي وكاتب ريبورتاجات وحوارات إلى آخر السلسلة، التي لا يتمخض عنها إلا وريقات وأشباه نصوص وأشباه قصائد وكتابة ارتجالية تضج بانطباعات يسميها فكراً ونقداً وهلم جرا! واحد من هؤلاء الاستعراضيين ممن أعرفهم يمثل مزيجاً مضحكاً، كان مثيراً للسخرية والاستهزاء، الرجل كان في البداية قاصاً ثم أصبح شاعراً ثم في مباغتة مدهشة تحول إلى ناقد سينمائي.. الله الله، بقي أن يكون فيلسوفاً، وهو في كل هذه الحالات يكتب أكثر مما يقرأ مثل ملهم، مثل حكواتي بليد، وكأن الحكواتية هي الثابت الوحيد، هي الاستمرارية بين كل تلك القطيعات والتحولات، «يخزي العين ما شاء الله!». إنها أشكال إعاقة وتشوهات تعوض نقصها الفاضح بفضيحة ثقافية: أدعياء الثقافة يمارسون السطو والخديعة، يسرقون الألقاب ويخدعون المتلقي، فإذا كانت حياة «إمبرتو إيكو» أو «غونتر غراس» حياة ارتياب من التقنية كما لو كانت قادمة من «عصر الديناصورات»، حياة مكرسة بكاملها للنص، حياة تمقت اختزال الانشغال الثقافي إلى هوس الضوء والشهرة، كما تمقت الفراغ ومضيعة الوقت، حيث تجتمع جدية الباحث الأكاديمي ومرح الأديب الذي يتحدث النص ويضحك من خلاله، فإن صاحبنا الاستعراضي -على العكس من ذلك- يحيا لكي يموت النص، يتحرك ويتكلم لكي يصيبه بالشلل والصمت، هناك حالة تقرأ أكثر مما تكتب، وهنا تواجهنا الثرثرة والخطابية الفجة التي تأتي أحياناً في صورة «حكم» تذيل في أسفلها الأسماء والتواقيع، وقد ترفق بصورة شخصية لإضفاء مزيد من الأبهة والتعالي حتى لا نقول التبجح والادعاء. وعادة ما تتسم الأقوال الحكيمة بكل سمات الجمل الخبرية الوثوقية كما لو كانت اكتشافاً لم يسبق إليه أكبر فيلسوف أو شاعر، صاحبنا هذا يستدر الشفقة، فكأنه صدق الأكذوبة، صدق الهراء الماثل في أقواله المجترة والمكرورة التي يحسبها تتسم بكل قيمة معرفية وأدبية، فمن غيره يتحفنا بأمثاله وحكمه وهو الذي لا يدانيه أحد في قدراته الكتابية والفكرية والتأملية! الاستعراضي كائن هجين، ثمرة لتزاوج الفحل والمهرج، إنه شكل آخر من أشكال العنترية التي تحيل الثقافة إلى صبيانية محضة، الظاهرة الاستعراضية ظاهرة للفرجة، لا يكتفي الاستعراضي بحضوره الصاخب في العالم الافتراضي بل يقوم بتعزيزه في كل زوايا المشهد والحياة الواقعية، إسهاله الكتابي في فيسبوك يترافق مع حضور مكثف في الندوات والفعاليات الثقافية، إنها بهرجة و«علاقات عامة» تعزز الوهم، الاستعراضي العنتري والمسكون بهاجس البروز، هو أيضا خبير في العلاقات العامة، إنه لا يكتب وحسب بل يوزع الترضيات والمجاملات كما يوزع ذاته بين الانتماءات والأفكار الدارجة التي لا تقوم إلا على أساسات مهترئة، اليوم هو «بنيوي» لأنه قرأ «الخطيئة والتكفير» للمفكر السعودي عبدالله الغذامي، ليظن واهماً أن قراءة عمل واحد تكفيه لمتابعة «البنيوية» في تشريح كل الظواهر الثقافية والنصوصية، قبل أن يباغتنا بعدمية مستمدة من نصوص عبدالله القصيمي ليهدم كل البناء اللاهوتي بتهكم ممجوج وسخرية صفيقة، ليس هذا فحسب، بل نجده يوزع الأحكام: هذا متشدد سابق لم يقرأ إلا «شوية كتب» وذاك نصف شاعر.. وهو وحده الألمعي. هناك شيئان لا يمكن أن يجتمعا: غواية النص والافتتان به، والانشغال بمتابعة التدوينات الفيسبوكية ليقتصر الهم الثقافي على وضع «اللايكات» وثرثرة هنا وهناك، رائحة الاستعراضي في مواقع التواصل الاجتماعي تزكم الأنوف، اسمه محشور في مقدمة كل مهزلة، أما النص والاشتغال عليه ففي المؤخرة دائماً، هذا الاستعراضي أسوأ من صحفي تورط في كتابة ريبورتاجات مجزأة، إنه هنا كائن أسطوري وتراجيدي في آن معاً، فالعلامة الخبير بكل شيء والعنتري المنتفخ يستوحش -لفرط استثارة الحضور- من كل عزلة ضرورية لمعاشرة النص، في كل استعراضي ثمة ضجر من عزلة القراءة تُعوض بكاريزما الثرثرة.. وهاكم هذه الشهادة ل«نديم السيد» إحدى شخصيات رواية «ساعة التخلي» للكاتب اللبناني عباس بيضون: «أقرأ قليلا، في الحقيقة لا أقرأ كتابا كاملا، لا طاقة لي على ذلك، أتصفح أكثر مما أقرأ. أبحث عن أفكار، عن عبارات تلزمني في حديثي، أنتقي من الكتاب عبارات تستوقفني، أكتفي أحيانا بقراءة المقدمة، وحين أقرأ صفحتين، أو ثلاثا عن مفكر أو أديب، أستطيع أن أقولها في نصف ساعة».