مُنْذُ الصّباح الباكر ومع زقزقة العصافير القابعة فوق الشّجرة بجانب منجرته، يبدأ الطّرق وتقطيع الخشب، كم يُطربه صوت نشر الخشب ودقّ المسامير كموسيقى فوضوية تملأ يومه بالحياة، وكم تملأ رائحة الخشب خياشيمه وتنعشها.. أحيانًا يوقظ العصافير من نومها بصوت الطّرق والسماء ملتبسة بين الليل والنهار، كان الخشب في كفّيه كعجينة الخبز يشكّله كيف يشاء وحسب رغبة زبائنه… طلبت منه طفلته ذات مرّة أن يشتري لها دمية من السوق، لم يكن لديه الوقت الكافي للخروج من منجرته فكان أن صنع لها دمية خشبية، صغيرة وجميلة ذات وجه مستطيل وأنف هرمي طويل، حلمت كلّ فتيات القرية باقتنائها، أصبحت مصدر حديث أهل القرية، طلبوا منه صناعة دمية مماثلة لأطفالهم، صنع واحدة واثنتين، غيَّر وجهة تجارته إلى صنع الدّمى الخشبية، ولكنه سرعان ما عدل عن فكرته فهي على سرعة إنجازها، لا تُدِرُّ ربحاً كما تُدِرُّ له الدّواليب والكراسي وطاولات الطعام.. بعدها ترك صنع الدّمى؛ لأنها باتت تشغله عن إنجاز ما تكفله لزبائنه. بات يعرف كيف هو موديل الدولاب الذي تطلبه أمّ ماجد، وكيف هو موديل الكرسي الذي تحبّه نسرين.. وحتى فراش النوم بات يعرف ما إذا الحاج كريم يحبّ زوجته أم لا، عندما طلب منه صنع سرير على أن يكون شبه سريرين، حيث طلب منه تنفيذ فتحة في وسطه ويربطهما ببعض في نهاية السرير بقطعة خشبية صغيرة، حتى يبدوان كسرير واحد… لما أحسّ بالاستغراب بادياً في وجه، قال له إن زوجته تزعجه كثيراً من كثرة تقلّبها في الفراش وهذا يوقظه أثناء الليل كثيراً، كان يعلم كذب دعواه، وما هي إلا حجة ليبتعد عن زوجته ولو ببضعة أمتار تريحه عن جحيم مخيف أو كائن يجثم على صدره. جاء الحاج كريم منذ الفجر لاستلام سريره وقد تعجّب من مجيئه في هذا الوقت، كان يخشى أن يشاهده أهل القرية وهو يحمل سريره في سيارته، وكم حذّره من ذكر اسم صاحب السرير الغريب، أمّا زبائنه أو أيّ أحدٍ من أفراد القرية، لاحظه يرتجف ويكثر من التلفّت يميناً ويساراً… دفع له أجرته. النّجار: فقط!! الحاج كريم: وكم تريد، هذا يكفيك وزيادة؟!! النّجار: لقد استهلكت خشباً مضاعفاً لصنع سريرك هذا!! وبتصميم جديد. لم يكن المبلغ مُرضياً للنّجار، فارتفعت الأصوات.. فكان على الحاج كريم إنهاء الجدال سريعًا، ودفع له أجرة إضافية كي لا يفيق أهل القرية على وقع أصواتهما المرتفعة.. أخذ سريره وابتعد سريعاً تاركاً وراءه دخان عادم سيارته ينتشر في الهواء.. قال: ليتني أعرف ما إذا كانت زوجة الحاج كريم سعيدة مع زوجها أم لا، أهي حانية أم قاسية مع زوجها، أهي طير وديع تغرّد له مع الفجر وتحول ليله إلى موسيقى حبّ أم تنين تحرقه بنيران غضبها، أهي طيف تلون له أحلامه الباهتة أم كابوس يؤرقه؟…!! في الليل عرف الحقيقة، عرف أنها طيبة، حسنة العشرة، شخصية نافذة وكلّ من يقترب منها يحبّها… كان وقع كلمات زوجة النّجار كأجراس تدوّي في أذنه في ذلك الليل الحالك، يتمْتم وحيداً: كم أُشفقُ عليها وعلى سوء قدرها الذي تحياه مع زوج لم يعرف قيمتها، وودت لو يقع الآن السرير بين يديّ لأحوّله إلى قطع صغيرة من الخشب، كيف قمت بصنع سرير شيطاني كهذا… في الصّباح كان صدى صوت الطَّرْقِ ونَشْرُ الخشب يتردّد في أزقّة القرية، كم كانت المفاجأة عندما جاءه الحاج كريم وشاهد في عينيه اليسرى كدمة، أسودّت لها عينه وأصبحت نصف مفتوحة، ابتسم الحاج كريم ابتسامة تشبه الخشب بل أشدّ قسوة منها، طلب منه أن يصنع له سريراً آخر غير الذي صنعه له، سرير لشخصين وبلا مسافات، قال إنه شعر بالبُعد عن زوجته التي يحبّها وأنه عاش ليلة لم يعشها من قبل من الوحشة والفراق.. كان يلعن ويشتم نفسه؛ لأنه فكّر بهذه الفكرة… أما النّجار فكان مذهولاً لما رآه وبسرعة سجّل له طلبه لينجزه له.