لو أردنا إجراء مقارنة بين السعودية وأمريكا من حيث المشهد الصحي لأمكننا القول أن الصحة الأمريكية متفوقة في الخدمة والصحة السعودية متفوقة في النظام، ذلك أن المريض الأمريكي يتضرر من نظام يخرجه من المعالجة بسبب التأمين التجاري بينما المريض السعودي ينص نظامه على علاجه على نفقة الدولة في كل مكان وزمان، لذا فإن تضرره -أي المواطن السعودي- يكون من الخدمة المباشرة في المراكز الصحية الأولية أو المستشفيات أو خلال النقل الإسعافي. والأمر ليس بهذه البساطة من حيث المباشرة في تفسير تلك المسافة الهائلة بين النظام الضامن لصحة المواطن وبين الخدمة في الميدان التي تعكس الاتجاه، ذلك أن هناك أنظمة أخرى تسيء للخدمة بطريقة مباشرة وغير مباشرة وأهمها النظام المالي في الدولة ونظام الخدمة المدنية والنظام التعليمي بتأهيله ومخرجاته. فالنظام المالي بمركزيته وبيروقراطيته التي لا تتوافق مع الديناميكية العالية للممارسة الطبية يمثل عائقا كبيرا، فضلا عن كونه لا يحسن التفريق بين المناطق في المركز والأطراف، فلكل منطقة هوية صحية خاصة تتطلب أولويات محددة وأداء مختلفا، ورغم محاولة النجاة من مظلة هذا النظام عبر برامج التشغيل الذاتي فإن هذه البرامج وقعت في مشكلة الفساد والانحياز من جهة وفي مشكلة إعادة إنتاج الخلل في النظام المالي من جهة أخرى فأصبح لدينا العشرات من وزارات المالية تحت مظلة وزارة واحدة! أما نظام الخدمة المدنية فحدث ولا حرج، ذلك أن بيئة الخدمة الطبية ضمن إطار المنشأة مقدمة الخدمة بيئة غاية في الاحترافية والجندية، الاحترافية التي يضمنها تأهيل مناسب أو إعادة تأهيل أثناء العمل مع قوانين داعمة والجندية التي تضمن الانضباط المهني والأخلاقي، وكلا هذين العاملين لا يسمح نظام الخدمة المدنية بتوافرهما ما لم يوجد الدافع الذاتي (الإنساني) لدى الفرد طبيبا كان أو فنيا أو إداريا، وهذا الدافع لا يصح التعويل عليه وحده عند الحديث عن عمل مؤسسي مبني على أذرع علمية وإدارية وثقافية معينة. لذا يجب العمل فورا على إيجاد آلية تقوم بتطويرنظام الخدمة المدنية أو استقالة الخدمة الطبية من مظلة هذا النظام. ويطول الحديث عن المخرجات البشرية وأثرها على الخدمة من حيث تأهيلها ومهنيتها، فالعنصر غير السعودي الذي سنعتمد عليه لعشرات السنوات القادمة لا يمكن محاكمة الجهات التعليمية التي خرجتهم بمستويات غير مقنعة، فالخيار الموجود أمامنا إما عدم التعاقد معهم وهذا خيار متضائل أمام قلة الكوادر الطبية على مستوى العالم أو إعادة تأهيلهم هنا عبر تحويل المواقع ذات الصبغة الخدمية البحتة إلى مواقع ذات صبغة أكاديمية! وهذا الأمر تبدو الحاجة إليه ملحة ومقنعة خاصة مع وجود هذا العدد من كليات الطب الناشئة والتي هي بلا مستشفيات جامعية حتى اللحظة فيمكن عبر مبدأ الشراكة تحقيق منفعة متبادلة لكافة الجهات. هذا التوجه يبدو لي حلا مناسبا للإشكالية القائمة حاليا وهي إشكالية خريجي الدبلومات الصحية من السعوديين، ذلك أن هؤلاء الشباب والشابات نتاج خلل في التخطيط ولا يتحملون مسؤولية هذا الضخ لهم والزج بهم في واقع غير قادر على استيعابهم، لذا فإن (ترشيد السعودة) في القطاع الصحي من خلال وضع عين على العاطل وعين على المريض أمر مهم حين مقاربة هذا الإشكال. إن التوجه الأكاديمي وإعادة التأهيل هو الحل الواقعي والصعب ليكون آلية لترشيد سعودة القطاع الصحي, هذا الترشيد لا يقصد التعامل العددي مع العاطلين الصحيين بل يهدف لتغيير مفهوم أن الوظيفة من أجل الراتب والاستقرار الاجتماعي فقط بل من أجل تقديم خدمة احترافية صحيحة، ويهدف لأن يكون الالتحاق بالقطاع الصحي مغامرة مقلقة وتحديا مزعجا للفرد مقدم الخدمة الصحية. يمكن اختصار الفكرة أعلاه بالقول إننا نرغب بوجود (مستشفيات في مدائننا) لا (مدائن تقطن مستشفياتنا)! إن تحويل قطاع خدمي ليحتوي على آلية تدريب تؤثر في الحالة الوظيفية لمنسوبيه وتغير من الفكر السائد في منظومة الأداء أمر ليس سهلا لكنه خيار يكاد يكون وحيدا لخدمة المستقبل. إن الخدمة الصحية مقبلة على انهيار في حالة إغفال العنصر البشري المؤهل والاحتفاء بثقافة الإسمنت والحديد ممثلة في المشاريع والتجهيزات على حساب ثقافة بناء الإنسان البناء المستمر. يبدو جليا أن الأمر يمكن اختصاره في فكر إداري قادر على الإنجاز يتجاوز-تصحيحا- الثقافة المجتمعية والثقافة السياسية المحلية المؤثرة سلبا على أبجديات الخدمة الصحية وأدبياتها، وهذا يقتضي الإيمان العميق بفكرة حصول (الأضرار الجانبية) من قبل أصحاب القرارفالمسارالتصحيحي في أي شأن لا بد أن يصحبه آثار سالبة يمكن التعامل معها بواقعية وتوازن. إن ثنائية الخدمة والنظام لا تكتمل دون وجود ثالثهما وهو الوعي... وعي الأفراد ووعي المؤسسات الناقدة والمتابعة للمشهد الصحي، وللوعي قصة ستكتمل في المقال القادم.