يكفي أن تقرأ التعليقات على أي يوتيوب فيديو عربي، لتعرف مقدار الانهيار الأخلاقي والنفسي الذي تعيش فيه مجتمعاتنا العربية، شتائم من كل الأنواع والأشكال، معارك حول لاشيء، شوفينية وعنصرية مرعبة، ادعاء لأخلاق سرعان ما تكتشف سقوطها مع أول رد فعل نتيجة استفزاز ما، إحساس بالتفوق مبني على فراغ وسرعان ما ينهار مظهرا الخراب الكامن خلفه، ماضوية ومباهاة بتاريخ لم يعد يصلح سوى أن يكون من مقتنيات المتاحف فالحاضر بهزائمه النفسية والمادية أحدث قطيعة كبرى مع هذا التاريخ وجمده وجعله مجرد أثر قديم لا يملك أي مقومات تتيح امتداده واستمراره. وإذا ما كان اليوتيوب هذا يطرح قضية إشكالية ما، سياسية أو دينية فأنت إذاً أمام وجبة دسمة من الحروب والمعارك الطائفية والمذهبية الكلامية التي تشي بحقيقة هذه المجتمعات المنقسمة والبعيدة تماما عن هوياتها الوطنية والمتمسكة بكل ما يسبب بقاءها في ضفة الجهل والتغييب والاعتزاز بالانتماءات المادون وطنية والمادون إنسانية، وستذهل من الرغبة بقتل الآخر التي يفضحها الكلام المباشر أو المرمز، وستذهل من سهولة إقصاء الآخر ونفيه ومحوه وتغييبه، وستقول لنفسك لو أن هؤلاء المتحاورين افتراضيا التقوا على أرض الواقع ودخلوا في النقاشات نفسها، هل يا ترى كنت ستشهد مجازر حقيقية، كما تعاين تلك المجازر الكلامية الافتراضية؟، وستحتار حتما وأنت تقرأ تعليقات المتابعين العرب تلك بتحديد مصدر هذا الخراب الذي تراه يتدفق أمامك كنهر ومنشأه وبداياته وأسبابه، وستسأل نفسك: هل انعدام الرقابة على العالم الافتراضي هو من تسبب بكل هذا؟ هل الغياب المادي للمحاور والاستعاضة عنه بوجود اللغة هو ما يسمح بكل هذا؟ وهل الواقع مختلف، أسئلة كثيرة ستؤرقك إذا ما تابعت التعليقات العربية على أي يوتيوب / فيديو عربي أو على أي مقال أو بوست إشكالي على صفحات التواصل الاجتماعي، على أن ما يحدث في بلادنا العربية «سوريا نموذجاً» منذ ثلاث سنوات ونصف السنة سيعطيك إجابات واضحة على كل أسئلتك، بعض الشعوب العربية عاشت تحت حكم الاستبداد السياسي والاقتصادي والديني والاجتماعي عقودا طويلة، شعوب حرمت على مدى هذه العقود من كل ما يمكنه أن يتيح لعقلها الإبداع والتطور، حرمت من الفعل المدني اللازم لحراك المجتمع ومن العمل السياسي المعارض ومن العمل الثقافي المنتج، تم منعها من إنشاء مراكز بحثية اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية، أغرقت حياتها بطفرة الفضائيات المتوزعة بين الخلاعة والتطرف، وبالتالي انعكس هذا على يومياتها، جوبهت بكل ما يمنع العيش الكريم عنها وأصبحت حياة أفرادها مجرد اللهاث وراء لقمة العيش ولا مانع من الدخول في لعبة الفساد من أجلها، ربطت مصائرها بمصائر حكامها، صار الحاكم هو المنقذ وهو المخلص وهو المستقبل، فنشأت لديها نزعة تقديس السلطة وتقديس الفرد بصفته بديلا عن الذات العليا المقدسة، عاشت عقودا طويلة في ظل التسليم للأمر الواقع ومستكينة لهذا الثبات الذي يمتد من حولها كمستنقع آسن، صار التغيير بالنسبة لها مسببا للخوف ومثيرا للرعب من خلخلة هذا الثبات والأوهام حوله، وعندما وجد بينها شباب استطاعوا تنمية خيالهم والتحرك بناء على هذا الخيال كانت الصدمة الكبرى: ليس مسموحا لهذه الشعوب أن تتحرك وليس مسموحا لشبابها التفكير بمستقبلهم وتخطيطه كما يحلمون، أن تفكر بهذا يعني أنك من هواة الانتحار والموت، ستقتل حتماً أو ستنفى أو ستعطب جسدياً ونفسياً أو سيتم الاشتغال على غرائزك الأولى واستنفار كل الخوف الذي كان بداخلك لتحويلك إلى قاتل أو مقتول، وأنت ترفع شعارات ماضوية لا تعنيك، سيصبح ابن بلدك عدوك وجارك عدوك والقريب عدوك والغريب عدوك وستكون دائم التحفز لمحاربة هذا العدو / الوهم في كل لحظة من حياتك .. اخترت أن تحلم وأن تفكر بتحقيق حلمك، إذا عليك أن تتحمل نتيجة فعلتك هذه، ما ستلقاه هو الموت أو العودة إلى دائرة الصفر، حيث لا نقطة محددة تبتدأ منها ولا هدف محدد لتصل إليه ،هو الدم والضياع والخراب والظلام والانعدام الكامل للرؤية والخوف المضاعف من القادم هو فقط ما ستكون فيه وهو فقط ما يسمح لك به. وهكذا أيها المتابع للتعليقات والحوارات الافتراضية العربية على الشبكة الافتراضية ستكتشف أن الافتراض ليس سوى دليل صغير على عمق الخراب الذي تعيش فيه مجتمعاتنا العربية وليس سوى إشارة بسيطة على المستقبل المظلم الذي ينتظرك أنت المصر على الانتماء لهذه الشعوب لإدراكك الكامل بحقها في الحياة بكرامة وبعدل وبمحبة وبإنسانية لا يملك أحد، مهما كان / منعها عنك.