ترجل الفارس المهيب عن صهوة جواده الوَاهِن وراح يتأمل الشمس التي سقطت في بحيرة الرمال الساخنة في صحراء نجد، تشبثت نظرات عينيه التي غصت بغبار السنين بأشعة الشمس المخضبة بصفار «مصفر» وجعل يتأمل انكسار الشعاع الواحد تلو الآخر. راحت الذرات التي تحمل ضوء الشمس بالتخلّي عن ذهبية لونها وأخذت تتشرب حمرة داكنة وكأنها تنزف كطير جريح أسقط من عَلِ، زاد نزيف الشمس واشتعلت أطرافها وراحت تتآكل وتفقد أجزاءها بسرعة هائلة. راحت تتساقط أطرافها حتى ابتلعت الصحراء ما تبقى من شمس أزف نورها ودفنتها بين رمالها الدافئة، وحلّ مكانها ظلام مهيب سرق من الفارس هيبته، فُجع الفارس من سقوط معشوقته الذهبية وهوى إلى الأرض كجلمود صخر وهو يبكي من فقدان حبيبته، انتحر جواده واقفاً متأثراً من سقوط الشمس وصاحبه، كانت جروح قديمة جديدة قد احتلت جميع أطراف جسد الفارس المتعب ورفعت راياتها المختلفة، راحت الجروح ترفرف راياتها وكأنها تحظر لإعلان وفاة صاحبها. ظلّ الفارس طريح رمال الصحراء يقاوم آلامه وراح يشكو لذراتها الملتهبة همومه ومتاعبه، ظلّ يحكي عن نفسه وعن ماضيه الذي لا يشبه حاضره، راح يسترجع ذكرياته الحبلى بمعارك كثيرة وغنائم أكثر، راح يتسكع في دهاليز ذاكرته المتخمة بتحدي ظروف الزمان والمكان وقهرها وتركيعها ذليلة عند قدميه، قضى ساعات ليله «الأسود» متنقلاً بين ساعات مضيئة في ماضيه «المشرق»، ملّت ذرات نجد من حكايا الفارس الذي كان فراحت تسبح في الصحراء الشاسعة، وتحج للفارس الملقى على الأرض كل فين، مرت السنون والفارس مجندل على الأرض بلا حراك يحن لشمس تسقي كيانه وجواد يبث الدماء في عروق، كان الفارس يسلّي وحدته محدثاً جواده الذي ظل واقفاً كالجبل برغم رحيله المروع. بعد سنوات من مطارحة الرمال وسط الظلمة الموحشة، أقبل إليه جواد ضخم راحت الأرض تجري تحته مطاوعة لسرعة أقدامه الممشوقة، اقترب الجواد الذي اكتست أطرافه بلون البن المطحون واسودت أجفانه وكأن الكحل قد صُب به، قفز الفارس من مكانه وكأن الحياة دبت فجأة في أطرافه واعتلى صهوة جواده اليافع وراح يبتلع ليل نجد الأسود، منطلقاً بلا توقف جففت الرياح العاتية جروحه بعد أن هوت راياتها السوادء تحت أقدام جواده كحيل العين . ظلّ الفارس واقفاً فوق جواده الذي يسابق الريح وهو ينظر بلهفة إلى السماء المظلمة بحثاً عن عودة معشوقته الذهبية. مرت الشهور الطويلة والفارس منطلق فوق جواده حتى ظهر أول شعاع للشمس، صاح الفارس بأعلى صوته مرحباً ثم تكاثرت أشعة الشمس حتى زفت قرصها الذهبي لأعلى السماء وأنورت بها صحراء نجد المظلمة. ظلّ الفارس المهيب فوق جواده الكحيل يعدو بلا توقف وهو يباري معشوقته الذهبية في السماء وذرات رمال صحراء نجد تتحول إلى ذهب.. فارس.. وجواد.. وشمس = ذهب.. تلك هي المعادلة «الكونية» التي لن يستطيعوا إيقافها..