الابتعاث رحلة عمر ففيها تبحر بين التجارب الشيقة والمثيرة، فتارة ترى نفسك أمام مجتمع لا يعرف عنك إلا اسم بلدك، فتتضارب الثقافات المختلفة ليكون الحاكم الرئيس بينهما هو الأفضل. آلاف الطلبة سنوياً يشدون رحالهم إلى بلدان العلم الأول مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية وكندا وبريطانيا وأستراليا، وعند السفر يكون المبتعث محملاً بالهموم التي تجتاح شرايين جوفه من جهة الدراسة ومن الجهة الأخرى الثقافة المختلفة. قبل الابتعاث كنا نسمع مثلاً عن الحضارة الأمريكية التي تعتبر الأولى عالمياً، فأول من وصل الفضاء هو رائد الفضاء الأمريكي نيل أرمسترونغ، وأولى الجامعات العريقة في العالم هي جامعة أكسفورد وكامبردج وهارفرد. جميع ما كنا نشاهده ونسمع به ونقرأه، اليوم نحن نعاصره بأجسادنا وأرواحنا، فنشاهد ونستنكر عندما نجلس مع رجل أمريكي مسن يلبس نظارة سوداء وشعره يكتسحه البياض من تعب الدنيا، فلا تسمع منه كلمة الكرم العربي «تفضل»، لتشاركني الأكل، التي نسمعها في مجتمعنا، وهي جزء من ثقافتنا العربية التي أنجبت حاتم الطائي الذي خلع باب بيته من شدة كرمه لضيوفه. ثقافتنا العربية المعروفة ب«الفزعة» لا وجود لها في المجتمعات المتطورة، فطلب المساعدة في الطريق من رجل أعياه التعب لا وجود له، الجميع مشغولون بقوت يومهم، ولا مكان للفزعة في منهجهم. فإذا بدأنا نتكلم عن البيئات الجامعية في «بلاد العم سام»، كما يطلق عليها الشعب الأمريكي، فهي جامعات لا يفصل بينها وبين المجتمع المحيط أي فاصل، فعلى سبيل المثال، لا وجود للجدران الضخمة، مثل التي تحيط بجامعاتنا، التي إذا رأيتها تشعر بأنك أمام مقر أمني محصّن. الجامعات هناك وضعت للشعب، ووضع الجدار يسبب الرهبة، ويفصل بين مكتباتها والمجتمع، وهذا أمر لابد أن يصحح لدينا، فالمكتبات يجب أن تكون متاحة لعامة الناس، في أي وقت، وبدون عوائق لكي يتاح للجميع التزود بأي معلومة يبحثون عنها. أما فيما يتعلق بالصحة، وهو الأمر الذي يشغل التفكير، فعند زيارة الطبيب في الولاياتالمتحدةالأمريكية، أول سؤال تسمعه ما هي شركة التأمين التي تنتمي إليها؟ فعدم الاشتراك في إحدى شركات التأمين سوف يجبرك لدفع مبلغ الكشف والعلاج، أو سوف تتعرض لمساءلات قانونية، أما لدينا فالمستشفيات الحكومية في بلادنا توفر العلاج لكافة المواطنين بالمجان، وهذه نعمة عظيمة. وإذا تحدثنا عن شراء العقول النيّرة، التي لا تقف عن البناء ولم تستثمر أو تجد الفرصة المناسبة في البلاد العربية، فهناك تجد من يحتويها، مثلاً، البروفيسور فاروق الباز، أحد أعلام علم الفضاء في العالم، يعمل في إحدى أكبر الجامعات في أمريكا. ومن الفضاء إلى علم الكيمياء الذي قفز بشكل ملحوظ بحصول العالم العربي أحمد زويل على جائزة نوبل في الكيمياء عام1999م، وهجرته إلى الولاياتالمتحدة. ويوجد كثير من المبتكرين والمخترعين السعوديين المبتعثين في الخارج الذين إذا ما أتيحت لهم فرصة مناسبة في الداخل سوف يتسابق الغرب لإيجاد أفضل الفرص لهم، لأن بلدانهم لم تتطور إلا باستقطاب العقول المتميزة. أما إذا تم توفير البيئة المناسبة للمخترعين، ودعمهم مادياً ومعنوياً، فسوف يكون له أثر إيجابي مستقبلاً على وطننا الغالي. الابتعاث حكاية لها نقطة بداية وكذلك نهاية، فبدايتها علم ومعرفة، ونهايتها الفوز بشهادة واكتساب الثقافة الإيجابية وجلبها للوطن، فيجب علينا الاستفادة من الابتعاث بنقل جميع ما نتعلمه للوطن والمساهمة في بنائه.