قبل أربعين سنة، سار رجل على القمر وحرّر أقدام البشر، للمرة الأولى، من قيد ربط سير أقدامهم بالأرض منذ فجر الإنسانية. ورافق مشي رائد الفضاء الأميركي نيل أرمسترونغ على التربة القمرية الهشّة في «بحر السكون»، إندفاع ملايين الشباب في ثورتهم التي هزّت مدن العالم، ورقصهم على إيقاعات «البيتلز» وروك الملك ألفس بريسلي، وفورتهم جنسياً في «وود ستوك» أميركا (مباشرة بعد ثورة حبوب تنظيم النسل) وتغيير أجسادهم وملابسهم بضربات من ثقافة ال»هيبيز» وغيرها. كان ذلك زمناً فوّاراً: أرضاً وفضاءً. وحينها، حدس كثير من شباب ذلك الجيل، كما أكّدت استطلاعات الرأي أمس في الولاياتالمتحدة، بأن الزمن لن يطول بهم قبل أن يشاهدوا تحرّراً آخر للبشرية من قيد إقامتها المزمنة على الكرة الأرضية، عبر مشي الإنسان على كوكب آخر: المريخ. قبل أربعة عقود، بدت الإنسانية وكأنها تهمّ بإطلاق الجسد البشري إلى رحلة كونية مفتوحة الآفاق، بفضل قوة العلم الذي بدا وكأنه قوة جبّارة كاسحة. لا شيء من تلك الفورة يحضر راهناً. ولا شيء يرافق الذكرى الأربعين لسير أرمسترونغ على القمر، سوى سيول التشكيك بذلك الإنجاز (وقد باتت الإنترنت مساحة مفتوحة لسيول من تلك الشكوك)، وفتور أهمية الإنجاز القمري في العقول، إذ دلّت استطلاعات الرأي عينها أن 12 في المئة من الأميركيين يعتبرونه أهم إنجاز علمي لبلادهم. ومن اللافت أن ثلث سكان الدولة الأكثر تقدماً علمياً أجابوا عن رأيهم بأهم ما حققته بلادهم في العلوم خلال نصف قرن بالصمت أو ب «لا شيء»! أليست إجابة مثيرة للذهن حقاً، خصوصاً أنها تصدر عمن عاصروا إنجازات مثل خريطة الجينوم البشري والاستنساخ وولادة الانترنت وشيوع الكومبيوتر وتفجّر ثورة المعلوماتية والاتصالات؟ أترتسم كل تلك الإنجازات في الأذهان كأنها «صمت» و «لا شيء»؟ ألا يبدو ذلك قريباً من النقاش الأميركي عن داروين ونظريته، والميل القوي لتبني نظرية «المخطط الذكي» على حساب نظرة العلم إلى التطور بيولوجياً؟ وبالنسبة الى مهتمين بالفلسفة، يصعب ألا يذكّر ذلك بنقد للإفراط في مدح العلم الحديث، كما يظهر في أعمال المُعاصرين مارتن هايدغر وجون بودريار. وحتى في قمة السلطة أميركياً، ثمة فتور هائل، بل ونكوص عن الوعود القوية في الفضاء وعلومه. كرّم الرئيس باراك أوباما رواد «أبوللو11» الثلاثة، لكنه طلب إعادة النظر في خطة سلفه الرئيس جورج بوش، «كونستيليشين»، والتي تتضمن إنشاء قرى ومحطات على القمر، تنطلق منها مركبات إلى كواكب أخرى. وطالب أوباما بخطط فضاء أكثر تواضعاً. واستطراداً، لم تكن خطة بوش سوى «انتكاسة» أيضاً، ولو أن أوباما يعتزم النكوص عنها أيضاً. ويدل على ذلك قول مايك غريفين الذي ترأس وكالة «ناسا» أيام الرئيس بيل كلينتون، أن بوش أوقف تمويل المشاريع الكبرى لإكتشاف الفضاء، مثل مشروع «أوريجينز». وفي مقال نشره في مجلة «أفييشن ويك» أخيراً، قال بوضوح: «ستخصص الخمس عشرة سنة المقبلة لاحياء القدرات التي كنا نملكها في الماضي وأهملناها... لو اتخذت في حينه خيارات أخرى لكنا وصلنا إلى المريخ». ووافقه في الرأي أندريه لوبو الرئيس السابق ل»المركز الوطني (الفرنسي) لبحوث الفضاء»، إضافة إلى فرانسيس روكار إختصاصي فيزياء الفلك المسؤول عن برامج اكتشاف النظام الشمسي في المركز عينه. وهكذا، لم يحصل من «القفزة الكبرى للإنسانية»، التي زغرد بها لسان أرمسترونغ على سطح القمر، سوى تراكم عدد من الأجساد البشرية في «محطة الفضاء الدولية»، على مدار قريب نسبياً من الأرض، في عدد يساوي تقريباً مجموع من ساروا على سطح القمر. الأرجح انها ليست مصادفة. وأن علاقة الإنسان بالعلم، باتت تمر في تحوّل عميق يحتاج إلى إنجاز فلسفي لملاقاته.