1 أحيانا، أشعر بأن الكاتب يكتب نصه الأخير، بشكل متواصل، كأنها الشهادة على التاريخ قبل الموت. حملتُ هذا الشعور معي منذ بدأت، يوم كان الفقد بوابة جيلنا، الفقد والهزيمة، شعور ينتابني كلما أردت أن أضع كبدي على حجر الطريق. هل كنت صائباً؟ أعني هل كان ذلك شعوراً صائباً؟ وبعد كل نص، ألتفت إلى أمين صالح وأخبره هل هذا هو النص الأخير؟ فينهرني، ليس غضباً مني، لكن نهياً عن التفكير بأنانية على هذه الشاكلة. ولم أكن أتعظ. يظل هذا الشعور يراودني كلما بعد كتابة، كل نص. 2 هل نحن مأخوذون بأفق تشير إليه الطفولة ؟ هل نحن مأخوذون نحو أفق لا تتوفر فيه مخلوقات اليوم الثامن من سفر تكوينٍ يصوغه العذاب، زعماً بالقرابين التي يستدعيها المستقبل؟ هل نحن ذاهبون إلى هناك فعلاً، أم إن الشعر ضربٌ من الخدع الفاتنة؟ خدعة للحياة والموت في آن؟ 3 آه .. الشعر. أسهر الليل أفكر، لو أنك معي ترى ما أرى الآن في هذه العتمة. عتمة تتفجر فيها الرؤى مثل الألعاب النارية، برغم برد الليل ووحشة النهار. أقول لنفسي، كم هو غريب هذا العالم، يسير بنا ويأخذنا في مجراه عبر أنفاق لانهائية، غير قابلة للفهم، ودون أن ندرك، ماذا يريد الشعر أن يقول. ترى لو أن العالم أدرك التفسير، لو أننا قرأنا التاريخ، لو أن تاريخنا في القناديل، لو أن الضوء دليل خطواتنا، لو تسنى لنا، لو أننا. هل سنصل إلى حريق الحديقة هذا؟ كانت القصيدة تهجس بما نعيشه الآن. هل كنا نحسن الدرس، لو أننا رأينا رؤيا الشعر. قيل، فلما اتسع فضاء المكان، استضاقت المسافات عليه، واعتكرت صورة المستقبل في قلبه، وطاشت الظنون، واستحكم الشكُّ في الشمس. قيل، فلما التفت يقرأ الماضي، يكتب الحاضر، ليصقل المستقبل، صار الماضي أكثرَ استباقاً وسلطة وسطوة، وأسرعَ من الشعر والكتابة. كأنه الحياة الآخرة، متحكمة في الحياة الأولى. لكأن الشخص لا يقوى على النص. كأنما بلهنية تنال منا. البهلنية ذاتها التي تحدث عنها شاعرٌ قديمٌ في تراثنا السحيق، المفردة ذاتها التي طرحها ذلك الشاعر في سياق الكلام عن حرب عربية قديمة، حرب غفل أصحابُها، فطحنتهم. كأنه الآن. كأنهم نحن. (في اللغة. البُلَهْنِيَةُ : الرّخاء وسَعَة العَيْش. وهي أيضاً تصدر عن « الَبله»، ويقال تبلَّه : كان غافلاً ضعيف العقل. ويقال تَبَلَّهَ، ضَلَّ الطريق فَتَعسَّفَهُ) 4 (من رسالة قديمة) «يوم كنتُ معكم في المرة الأخيرة، خُيِّلَ لي أن عالمكم لم يعد زاخراً بمغريات الحياة. أعرف، أنا هنا محرومٌ من الحرية، لكن هل أنتم هناك تتمتعون بالحرية فعلاً. أي نوع من الحرية في واقع يومي مهدور؟ وإذ جردنا هذا السؤال من زعمه الفلسفي، هل يمكن الإجابة عليه بنقطة إيجابية واحدة، لكي أتأكد أنني في الحياة، مثلكم؟» قلبك عندي. أحاوره فيقول. وحين تتأخر الكلمات، أنتظر. وعندما تصل، أبحث فيها عن نافذة نادرة لكي أطل منها على الكون. أقرأ / أكتشف. هل توجعتِ إلى هذا الحد؟ ربما لأنك كنت تنتظرين الماء فجاءك الرمل. لا بأس. تستعيدين توازنك في انتظار جديد. تقدرين على المجابهة. قلبك معي، فهل جاءك قلبي؟