منصة سعودية موحدة لتقديم حلول AI    بلدية الجبيل تنتهي من تنفيذ حديقة الجوهرة تعزيزا لجودة الحياة    رئيس اتحاد التايكوندو: "الحربي" تكريم وزير الرياضة للأبطال يعزّز الدافع لمواصلة الإنجازات    بر الأحساء تحل ثالثا في جائزة الملك خالد فرع تميز المنظمات غير الربحية    وزير الخارجية يستقبل وزير خارجية الجبل الأسود    هطول أمطار رعدية على بعض مناطق المملكة من يوم غدٍ الثلاثاء حتى الجمعة المقبل    أمير منطقة جازان يتفقد سير العمل في وكالة الشؤون الأمنية بالإمارة    الحربي: التدريب دون متابعة "هدر مؤسسي".. وميزة التنافس لمن يحوّله إلى أداء فعلي    جامعة سطام تواصل صعودها عالمياً في تصنيف البحث العلمي البيني    شراكة استراتيجية بين ميدل بيست و زين السعودية بهدف تطوير مستقبل الترفيه والموسيقى في المملكة    لأول مرة في آسيا وأفريقيا... زراعة أصغر جهاز لتنظيم ضربات القلب لرضيعة بالرياض    وزير الصناعة والثروة المعدنية يبحث تعزيز التكامل الصناعي مع الجمهورية التونسية    محافظ الطائف يقدم التعازي لوكيل المحافظة البقمي    هيئة تقويم التَّعليم والتَّدريب تستعرض الرُّخص المهنيَّة للمدرِّبين في لقاء بجامعة أمِّ القرى    أمير تبوك يطلع على تقرير فرع وزارة الشؤون الإسلامية بالمنطقة    غارة إسرائيلية تستهدف «رئيس أركان حزب الله»    إحباط تهريب (214,650) قرصًا مخدراً    زيادة الإنتاج الأميركي من خارج الحقول الصخرية    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية ترصد ظهور النسر الأبيض الذيل    أكبر شراكة استراتيجية في العقد الجديد    أتعبنا عقلك يا طارق    الاستجابة الجوية تنقذ مريضاً خلال 19 دقيقة    بيئات العمل.. قراءة في مستقبل الصحة والسلامة المهنية    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالريان يحصل على المركز الأول في جوائز التميز في تحسين الأداء المقدمة من وزارة الصحة    يايسله: متحمسون لمواجهة الشارقة الإماراتي في النخبة الآسيوية    توقيع 3 اتفاقيات لتعزيز استخدام المياه المجددة    حين يكون العطاء لغة وطن    الناهشون في جسد النجاح!!    القطاع العدلي يواكب التحولات العالمية.. الصمعاني: الجودة القضائية ركيزة أساسية لجذب الاستثمارات    فرحة اسكتلندا بالتأهل للمونديال تسبب هزة أرضية    «أمانة جدة» تضبط 5 آلاف كجم من الأغذية الفاسدة    انطلاق المحادثات لمناقشة خطة ترمب.. جنيف تفتح «الملف الحساس» في حرب أوكرانيا    بعد مقتل خمسة من كبار قادة حماس.. مناقشة المرحلة الثانية من اتفاق وقف النار بغزة    اقتحامات واعتقالات متصاعدة في الضفة الغربية    ارتفاع طفيف بتكاليف البناء    انطلاق العروض المسرحية بموسم الرياض    جدة تستضيف مهرجان «ويكندز» للموسيقى    الانطوائيون أيضاً يصنعون النجاح    «الحج»:«نسك عمرة» منصة موحدة وتجربة ميسرة    مشيداً بدعم القيادة لقطاع الموانئ والصناعة البحرية.. أمير الشرقية يضع حجر الأساس ل«اللوجستية» ويفتتح توسعة محطة الحاويات    التعادل الإيجابي يحسم مواجهة الشباب والأخدود    في الجولة الخامسة من دوري أبطال آسيا للنخبة.. الأهلي ينشد الصدارة أمام الشارقة.. والاتحاد في ضيافة الدحيل    الأمن البيئي يتأهل لنهائي بطولة وزارة الداخلية لكرة القدم    روبوت صيني بقدرات بشرية    وزارة الثقافة تحصد جائزة أفضل مشروع ثقافي في المملكة    تحرك أميركي وشيك ضد فنزويلا    117 دقيقة مدة زمن العمرة خلال شهر جمادى الأولى    الشحن السريع لا يضر البطارية    جيسوس: لا يوجد مدرب لا يخسر    دونيس ينتقد التحكيم في مواجهته مع النصر    قهوة الصراصير والنمل تجتاح الصين    الكبد الدهني يضاعف خطر الوفاة    تحت رعاية ولي العهد .. وزير العدل يفتتح المؤتمر العدلي الدولي الثاني    وزير العدل: نعمل على انتقال البورصة العقارية إلى هيئة العقار    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية ترصد أول ظهور للنسر الأبيض الذيل في السعودية منذ 20 عاما    افتتاح جامع المجدوعي بالعاصمة المقدسة    الشيخ فيصل غزاوي: الدنيا دار اختبار والصبر طريق النصر والفرج    العبيكان رجل يصنع أثره بيده    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجهاد مُبْصر.. والحرب عمياء
نشر في الشرق يوم 04 - 03 - 2014

الجهاد الذي هو حرب أخلاقية، لم يكن خياراً أولاً قدرَ ما كان اضطراراً مقيداً باشتراطات، هذا مع كون القضية عادلة جداً ومع كون الرأي معصوماً، لم يكن هناك تخليط لا في النية ولا في الأغراض ولا في صفة الواقع، وكان السند المعنوي واليقيني المستعلي على تشعُّث الفعل الجهادي، أنه كان في نور النبوة والوحي، إذ كان النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم عِصمةً للفعل الجهادي، متى يبدأ؟ وأين؟ ومتى ينتهي وأين؟ وبأي حال؟ كما كان صلى الله عليه وسلم مصححاً لأي حالة خطأ أو تشعث عارضة.
ومع كل هذا فإن صفة الواقع أو حال الواقع كان قيداً، ومعنى كونه قيداً أو شرطاً أنه كان حاكماً حتى على النزعة الأخلاقية للقوة أو مراقباً لكفاءتها وملاءمتها لإحداث الأثر والقصد الديني. وقد قلت من قبل: إن الجهاد يعني تطويع القوة للنزعة الأخلاقية باشتراطات في الواقع وفي توجيه القوة أيضاً، أي أنها ينبغي أن تكون قوة لها سمع وبصر، قوة مسترشدة، غير متجاوزة للحد المسموح، والحد المسموح هذا هو أخلاقي بالضرورة، وهو أن تُراعى التبعات.
إن الذين يظنون الجهاد فتكاً بالواقع ومحواً لبنية ذلك الواقع لا يريدون أن يتذكروا أن الواقع نفسه قد يكون قيداً يمنع القوة الأخلاقية أن تفعل شيئاً، لأنه ربما تفنى هي ويفنى معها الواقع من غير طائل.
الذي أظنه أننا في مواجهة أزمة تُوقع في الوهم: أن معنى الجهاد يقوم بذاته بوصفه تطويعاً للقوة أو فعلاً ينطوي على القوة، وأنه مقصود لذاته، وأن قيمته مباشرة الفعل دون اكتراث للاحتمالات الغالبة، وهذا يعني أن العقل يخلط واقعه بالتاريخ ويكتفي بهذا الخلط من غير أن يتأسَّى، أي أنه لا يكون واعياً بالتفاوت، ولا يفرِّق بين قداسة وعصمة وضرورة الفعل الجهادي الأول، وبين الاجتهاد اليوم في اختيار القوة المطلقة وتطويعها باعتبارها أيضاً جهاداً يعادل في القيمة والمعنى والعصمة الفعل الجهادي الأول. المجتهدون اليوم يسيلون الزمان في بعضه وهم لا يرون فرقاً بين المتفاوتات -إلا ما ندر-. الذي أعنيه: أن المعنى النظري لمفهوم الجهاد وحتى الشرط الفقهي له يتحول إلى تابع لفهمنا نحن واختيارنا نحن، فيكون أي اختيار للقوة وبأي صورة جهاداً مطابقاً للمعنى الفقهي للمفهوم، ومساوياً لقداسة المفهوم الديني المستعلي، أي أن النية وحدها -على فرق نقاوتها- هي التي تعطي الفعل عصمته وهو خطأ فادح، قد لا نعيه أو لا نقصده، وإلا فإنه لا عصمة لعامة الناس، مهما صحَّت إراداتهم أو نياتهم. وهذه هي خطورة الخلط بين المفهوم المجرد ومعادله: المفهوم الواقعي أو الفعل، وهناك فرق كبير بين المفهوم وفهمنا للمفهوم، أو إدراكنا لحد المفهوم واشتراطاته، وهي واقعة منسحبة على كل مفهوم في الدين والمعارف العامة. والفقه -في ظني- قد يعني: إدراك المفاهيم بطريقة صحيحة وكيف نردم الفجوة بين المفهوم المجرد ومعادله الواقعي، وهذه صورة من صور حدة الفهم. وآفة أو دابة المفاهيم: قلة الفقه أو أن يكون الفهم كليلاً أو مريضاً، ودابة المفاهيم هذه هي التي غذَّت -في ظني- العقل الخارجي الأول، هو كان يجعل نفسه في موازاة الحاكم على الفكرة أو مفسر الفكرة ومختار معادلها الواقعي بشكلٍ قاطع، فمجرد أن فكرة ما تتقلب في ذهنه بصورة من الفهم، يعني أنها يقينية، غير قابلة للشك، فهو الذي ينزلها على واقعه حتى لو أنهكه بها، ليس هناك اكتراث بالمآلات.
وأنا أفهم الفقه في المعاني المحتملة، أنه ما كان مراعياً لواقع الناس والمصلحة الغالبة واقتضاء عاداتهم وتفاوت أحوالهم وإشاعة التيسير فيهم، وليس هناك في الحقيقة «نزعة دينية» لهدم أي صورة من صور الواقع قدر النزوع إلى هدم الأفكار واستنبات واقع رشيد صحيح بشكل متدرج.
والفرق بين الفعل الجهادي الأول وفهمنا نحن للجهاد اليوم ومعادله الواقعي أنه كان خياراً تالياً مدافعاً معصوماً قابلاً للاستبدال، قال تعالى: «وإن جنحوا للسَّلم فاجنح لها وتوكل على الله»، فيما هو اليوم -في الغالب- يوشك أن يكون قريباً من التهور واختلاط الأغراض والمغالبات إلى حد العنجهيات المتخبطة أحياناً، وهذا يحدث لأن «الجهاد» لا يمكن أن يكون جهاداً بغير عقل مدرك متفقه مستبين، فهو قرار صعب وعسير، وإذا كان في وسعنا أن نذكِّر بكون عقل الفعل الجهادي الأول معصوماً، فإن هذا المعنى يترتب على قداسة وعصمة الأمر النبوي الشريف، ومع هذا يظل الخيار المسالم مفتوحاً، لا ينغلق بابه، لأنه الأصل ما لم يتحول شرط ذلك الأصل ويحل محله شرط القوة أو المدافعة بالقوة، وهو ما يتبين من قوله سبحانه: «وإن جنحوا للسَّلم فاجنح لها وتوكل على الله».
هذا يعني أن القوة ليست اختياراً، قدر ما هي مدافعة للأذى وهيجان الباطل المعادي وهو ما يبين طبيعة الدين ونزعته إلى الرفق بإطلاق.
ونحن نلاحظ بهذا أن مفصلاً مفاهيمياً «أولاً» يعادل المبرر الأخلاقي لتطويع القوة «قوة الجهاد» الذي هو: الاضطرار إلى الدفع أو النفع؛ دفع المضارة والإيذاء والعدوان والاستعلاء ونزعات كبت كلمة الحق «كل هذا حفظ الشَّوْكة»، والنفع بتبليغ الفكرة اليقينية النزيهة، والدين كله أفكار يقينية أخلاقية نزيهة، والله سبحانه وتعالى يقول: «يا أيها الرسول بلِّغ ما أُنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين».
هل يمكن أن نتبين من هذه الآية الكريمة العناية بالأفكار المطمئنة وهي مسألة مآلات في قوله سبحانه «والله يعصمك من الناس»، فما بالنا اليوم لا نكترث لملابسات الواقع عن وعي؟.
هذا المفصل المفاهيمي يمكن أن نقول إنه «تمحض القصد للنفع»، وكل ضرر ظاهر إنما هو استثناء في أضيق الأحوال، ويضاف إلى ذلك مفصل مفاهيمي آخر هو «السند اليقيني المبرر»، وهو من بعد النبي صلى الله عليه وسلم، لا ينبغي أن يكون في الاجتهاد القاصر أو العشوائي أو اجتهاد الجماعات المتنازعة فضلاً عن الاجتهاد الفردي، هو شأن ينبغي أن تتضافر وتحتشد له عقول «فقهاء كبار غير متعجلين» تفقه الواقع بنفس القدر الذي تفقه به الدليل في النص وفي صفة الفعل الجهادي الأول «بوصفه معصوماً».
بهذه الاحتياطات يمكن أن يرتقي المعادل الواقعي للجهاد إلى قيمة المفهوم الفقهي، على قدر ما تقتضيه الموازنات واعتبارات المآلات وضيق الخيارات، غير أننا حين نعاين الواقع لا نلحظ عقلاً متحرزاً منشغلاً بالسلم والجنوح إلى السلم وتطلُّبه، قدر ما نلحظ نزوعاً إلى تفتيت المفهوم المعادل للجهاد «الفعل الذي نسميه جهادياً» تفتيته في الواقع حتى يتحول على عنف بغير عقل، عنف غير مبرر وغير مبصر وغير أخلاقي، فوق تشويه قداسة المفهوم الديني.
هذه فجوة كبيرة، كل جهاد حقيقي هو مبصر، أشد ما يكون البصر، ذلك أن معنى الجهاد في الحقيقة أنه «إحياء أخلاقي ومادي للواقع»، ليس إماتة ولا هدماً، أي أن المآلات الغالبة مترتبة على بصيرة نافذة، وهو النقيض للحروب العمياء إذ هي «إماتة أخلاقية ومادية للواقع»، أي أن المآلات الغالبة مترتبة على عمى ونزعات ظلم واستعلاء غاشم، هي ليست مبررة ابتداءً، لا باعتبار اضطرار الدفع ولا النفع في الغالب. إن الاضطرار فيها اضطرار تنازع سلطوي غير أخلاقي في الحقيقة، ولذلك فهي متناسلة مهلكة، إنها تشبه التفاعل الانشطاري الذي لا يمكن إيقافه بشرط من خارجه، هو لا يتوقف إلا بشرطه الطبيعي هو، ومن ذلك فإن هذه الحروب العمياء لا تكاد تموت حتى تأكل بعضها هي.
إننا ينبغي أن نعي أن صفة الجهاد، -التي هي أصل- ألا يكون بغير اشتراطات تميزه بوصفه حرباً أخلاقية عن هذه الاحتدامات المتهورة، فهو اضطرار وهو مدافعة وهو مستبصر لا تكاد تفوت بصيرته المآلات الغالبة، وهو فوق هذا قابل للاستبدال، أي أن يؤخر قوته الأخلاقية ويقدم نزعته إلى السلم، ثم هو فوق هذا لا يخبط خبط عشواء.
الحروب الأخلاقية تتحاشى المحايدين والضعفاء أن تصيبهم بسوء لأنها مبصرة ليست عمياء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.