العقل هو العدو الأول للأيديولوجيا، ولذلك قد يكون من النادر -إن لم يكن من المستحيل- أن نجد فترة تاريخية يزدهر فيها عمل العقل الحر في ظل سيطرة فكرٍ أيديولوجي، فالعقل الحر بطبيعته التي لا بد أن تٌخضع كل شيء للتجربة والبرهان، لا يمكن أن يتفق مع البلادة اليقينية التي ترتكز عليها الأيديولوجيات، ولا يمكن أن يرضخ لمسلماتها مهما بلغ تواتر القبول بها دون أن يحاصرها بالأسئلة والتشكيك الموصل إلى يقينه. هذا التضاد الواضح بين طبيعة الأيديولوجيا وطبيعة التفكير، كان –ولايزال- هو المؤثر الأكبر في تاريخ الحضارات، وكانت نتائجه هي التي تحدد تقدم الأمم أو تخلفها بحسب المنتصر من هاتين الطبيعتين، ففي تاريخ كل أمة تسيّدت حقبتها نجد –ولا بد- خلف هذه السيطرة والقوة حركة عقلية مزدهرة، تنتج العلوم والمعارف بشتّى أنواعها، وتعلي من شأن الفنون الحقيقية وتحتفي بمبدعيها، لا نكاد نجد استثناءً من ذلك إلا بعض الأمم التي سيطرت بقوتها العسكرية فقط، ثم تلاشت ولم تترك أثراً كأن لم تكن، مثل المغول التتار وبعض قبائل الهمج في أوروبا القديمة، فيما عدا هذه النماذج النادرة، فجميع الأمم المنتصرة وذات الحضارة لم تستطع الوصول لأمجادها إلا حينما أخضعت الأيديولوجيا لأداة التفكير «العقل»، وجعلت منه حكماً عليها ومرشداً لها. وحين نتحدث عن الأيديولوجيا فنحن لا نقصد الأديان السماوية الصحيحة قبل أن يطالها التحريف، بل نقصد هذه الأديان وغيرها بعد أن شوهتها الصراعات بين القوى المختلفة، وأصابها التأويل المتحيز، وطمس معالمها الانتقاء البشري المغرض، فكل الأديان السماوية جاءت بما يصلح للناس ويصلح أمر آخرتهم، ثم أمر دنياهم في زمنهم الذي يعيشون فيه -باستثناء الإسلام الذي يمتد زمنه إلى قيام الساعة- ولكنها لا تلبث إلا يسيراً قبل أن يحرفها الناس عن وجهتها ويسيروا بها، وتسير بهم على غير هدى، كما لا نقصد هنا التفكير المنفلت الذي لا يخضع لمقدماتٍ منطقية يقينية، أو التفكير القاصر الذي لم يستكمل صاحبه أدواته النقدية، بل نقصد العقل الواعي والملتزم ببديهيات المنطق وأصوله التي اتفق عليها العقلاء، ويكون على دراية عميقة بمناهج التفكير ودقائق الآليات العقلية. ولأنه ليس من السهل أن يزهد الإنسان في عقله ويقتنع بعدم جدواه، فقد لجأت الأيديولوجيا إلى إسباغ الصفة الدينية على دعوى التزهيد هذه، فعمدت إلى تجاهل النصوص الدينية التي تدعو إلى التفكير والتدبر والتأمل ما وجدت إلى التجاهل سبيلاً، وتعاملت مع بقية النصوص الدينية التي لا تستطيع تجاهلها بشكلٍ سطحي لا يؤدي إلا إلى النظر في الجبال والنباتات! ثم تأولت نصوصاً تدعو إلى التقليد والإتبّاع –ووضعت كثيراً غيرها- بطريقة تنتهي إلى تقديس هذا التقليد، وجعله هو السبيل الوحيد الذي يؤدي إلى رضوان الله والفوز بجنته!! كان هذا هو المنحى العام الذي سلكته كل الأيديولوجيات –تقريباً- في حربها لشيطنة العقل والتفكير، ولقد تشابهت وسائل تحقيق هذا الهدف رغم تباين الأيديولوجيات، حيث دارت هذه الوسائل بين الكذب والظلم والإكراه ونبذ المختلف والتجني عليه. ولا يمكن لنا أن نتحدث عن هذا الصراع الأزلي بين الأيديولوجيا والعقل، دون التعريج على موجة الأسلمة المحمومة التي اجتاحت مجتمعنا وعصفت به في العقود الأخيرة، التي تم توصيفها بالصحوة! وكأن النّاس كانوا غافلين قبلها! هذه الصحوة التي حاولت حشر الدين في كل التفاصيل، وسعت إلى أسلمة أشياء لا علاقة للدين بها، حتى أصبحنا نرى الأثاث الإسلامي والعلاج الإسلامي والاحتفالات الإسلامية والشقق الإسلامية المفروشة!! والتبرير الجاهز عند أصحاب الصحوة لهذا الهوس بأسلمة كل شيء، هو أن الإسلام جاء للآخرة والدنيا، وهذا كلام حق أريد به باطل، فالحقيقة أن الخطاب الصحوي قد قلص أكبر مساحات التشريع الإسلامي حتى كادت تختفي وهي مساحة العفو والمباح، حيث حرصت الصحوة على الوصول إلى تحريم أغلب الأمور التي تقع ضمن مساحة العفو، بل ألزمت الناس وأجبرتهم بالقبول والعمل بحكم التحريم هذا، إلى أن وصل الأمر بالناس إلى طلب الفتوى في أمورٍ لا علاقة لها بالدين، فأصبح عدد الفتاوى في الثلاثين سنة الأخيرة أكبر من عددها منذ بُعث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. ولكي يتسنى لها السيطرة على المجتمع فقد عمدت الصحوة إلى تشويه العقل وتسخيف التفكير، حيث بدأت بذم الفلسفة والمناهج العقلية، بل والوصول بها إلى مستوى الابتداع والكفر في كثيرٍ من الأحيان، كما حاربت كل من يهتم بها أو يحاول نشرها في المجتمع، وقد خاضت الصحوة حروبها مع أصحاب الفكر والعقل تحت مسمياتٍ دينية في أغلب الأحيان، فإن لم تفلح الأغطية الدينية، لجأت إلى الذرائع الوطنية والسياسية وكأنّ الوطن مقدسٌ لدى أتباع الصحوة! . وكعادة أصحاب الأيديولوجيات، كان عدو الصحوة الأول هو العقل، ليس الظلم عدوهم ولا الفساد، ولا التخلف، ولا الفقر، ولا المرض، ولذلك قامت أشهر معارك الصحوة مع أرباب الفكر وأصحاب القلم، ففي الثمانينيات الميلادية تم التوافق بين رموز الصحوة على خوض معركة الحداثة -التي لا يزال كثير من الصحويين يجهل معناها- فتمّ تبديع وتفسيق وتكفير مجموعة كبيرة من الأسماء من شعراء وكتّاب ومثقفين، كما تم التشكيك في وطنية بعضهم، وكانت ذروة تلك المرحلة لحظة صدور أحد أسخف الكتب وأكثرها تسطيحاً وهو كتاب «الحداثة في ميزان الإسلام» لمجموعة مؤلفين! وصدر تحت اسم الدكتور عوض القرني، ويستطيع كل من عاصر تلك المرحلة أو قرأ تفاصيل ما حدث فيها، أن يلمس الهلع والرعب الذي أصاب أهل الصحوة من مجرد محاولاتٍ فكرية خجولة تخالف السائد والمألوف، هذا الرعب الذي ألجأ بعض رموز الصحوة إلى الفجور في الخصومة، والظلم في الأحكام، وأخذ الناس بجريرة الظنّ وسقيم الفهم، ثم وصل بهم إلى الاستقواء على خصومهم بالقامات الدينية التي كانت تحظى بالقبول لدى الناس، واستدراج هذه القامات إلى معركتهم مع طواحين الهواء، كما حاول رموز الصحوة أن يستعدوا السياسي على من خالفهم، ولم يزل ذلك دأبهم مع أهل الفكر ومناسبات الثقافة، فلا يكاد يقامُ منشطٌ ثقافي إلا وتبادروا إلى التشويش عليه والتحذير منه تحت دعاوى الاحتساب وإنكار المنكر، فمع اقتراب معرض الرياض الدولي للكتاب في مثل هذا الوقت من كل عام، تبدأ جوقة التضليل ومروجو الإشاعات في التحذير والتبديع والتفسيق، وما زلت أذكر ضجيجهم الغوغائي الذي أحدثوه قبل وأثناء استضافة المعرض للمفكر محمد الجابري رحمه الله. كل هذه الخصومة مع العقل وأهل الفكر ليست مستغربة، لأنّه لا عدو أكثر نكاية بالأيديولوجيا وأهلها من العقل والفكر، ولذلك كانت المعركة الأزلية بين الأيديولوجيا والعقل الحر معركة وجودٍ لا يمكن أن تتخللها هدنة أو إلقاء سلاح.