مع أنَّه يفترشُ واحدةً من أغنى المناطقِ في العالم، وعلى الرغم من أنَّه يخترقُ المناطقَ الصناعيةَ والشركاتِ العالميةَ وحقولَ النفط، إلا أنَّ طريقَ (حفر الباطن – الدمام) أو طريقَ الموتِ كما يسميه بعضُهم مازال هو الطريقُ الأكثرُ فتكاً بالناس، وما زال يتربصُ بحياةِ السائرين ليقبضَ أرواحَهم واحداً واحداً، فمن لم يمُت تحت عجلاتِ شاحنة، مات في أحضانِ جملٍ سائب، حتى باتت كل تحويلةٍ فيه تحملُ ذكرياتٍ أليمةً لأُسرٍ أُبيدَت وأقارب رحلوا وآجالٍ دنت وآمالٍ نُحِرَت، ومن لم تكُن له ذكرياتٌ حزينةٌ على هذا الطريقِ ظلَّ ينتظرُها بدعاءٍ حار أن لا تكون فاجعةً، أو إعاقةً معطلةً للحياة، ومع ذلك فإنَّ السيرَ على هذا الطريقِ يساعدك في استخلاصِ كثيرٍ من العظاتِ والعبر، منها أنَّ الثراءَ وحده لا يكفي في عمليةِ البناء، وأنَّ الناسَ مقامات، وإلا ما معنى أن تكونَ حياةُ الناسِ رخيصةً في مكان، وغاليةً في مكانٍ آخر، فإنَّ من المفارقاتِ أنَّه في نفسِ اليوم الذي ودعت فيه محافظةُ حفرِ الباطنِ مديرَ مرورها الذي تعرضَ لحادثةٍ على طريقِ (حفر الباطن – الدمام)، وبعد الانتهاءِ من الصلاة على الراحلِ ودفنه، أردت الخروجَ إلى البر، فسلكتُ بالصدفة طريقاً صحراوياً مُمهَّدَاً بشكلٍ جيدٍ على غيرِ العادة، ودعوتُ اللهَ أن يمُنَّ علينا بمسؤولٍ يتعاقدُ لنا مع مَن هم بأمانةِ مَن أنجز هذا الطريق. من المخجلِ أن يكونَ هذا الطريقُ على هذه الدرجةِ من السوءِ والتهالكِ مع أنَّ كثيراً من العابرين عليه من جنسياتٍ مختلفة، ومن المؤسفِ أنَّ أكثرَ من ثلاثين سنة من الترميمِ و(الترقيع) لم تكن كافيةً للخروجِ بطريقٍ يمتلكُ الحدَ الأدنى من المواصفاتِ والمقاييس، فلا أعرفُ كيف يمكن لمسؤولٍ لديه أدنى شعورٍ بالمسؤوليةِ، أو يمتلك أقلَ درجاتِ الإنسانية أن يشاهدَ كلَّ هذا الحجمَ من المصائبِ والكوارثِ، ثم يمارسُ حياتَه بشكلٍ طبيعيٍ وبلا وخزٍ للضمير، فمع أنِّي أُعوِّلُ على ضميرِ الرقابةِ أكثرَ مما أعوِّلُ على رقابةِ الضمير، غير أني مضطرٌ لمخاطبةِ الضميرِ حين تغيبُ الرقابة، لأن الأصلَ في الإنسانِ الخيرُ، والشرُّ طارئ عليه. في محافظتنا لم نَعُد نفرقُ بين المصيبةِ التي تأتينا بسببِ ذنوبنا ومعاصينا، والمصيبة التي تأتينا بسببِ الفساد، فمع كلِّ فواجعنا يُقَالُ لنا: قضاءٌ وقدر، ونحن بحمدِ اللهِ مؤمنون لا نملكُ إزاء هذا القولِ إلا الرضا والتسليم، وإطراق رؤوسنا إيماناً بالقدر، مرددين: لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، لكنَّ حوائجَنا لا تنقضي ومشكلاتِنا لا تُحَل ومصائبنا إلى نماء، فكل حالةِ رحيلٍ نعيشها في انتظارِ راحلٍ جديد، بيد أن ما يؤرقنا أننا لسنا متأكدين أنَّ ما نفعله داخلٌ في بابِ الإيمانِ بالقضاءِ والقدر، فمن الجنون أن ترمي بنفسك إلى النارِ ثم تنتظرُ مصيراً آخرَ غيرَ أن تهلك، وأنت حين تسلك في أسفارِك طرقاتٍ ضيقةً مهترئةً مظلمةً غيرَ مُسيَّجةٍ مع أنها تمر عبرَ أماكن رعوية، فليس من الحصافةِ أن تستبعدَ أن تكون نهايتُك في أحضانِ جملٍ سائبٍ، أو تحت عجلاتِ شاحنة! يبدو أن الحديثَ عن الفسادِ بات رتيباً مكرراً مملاً ليس له قيمةٌ ولا معنى، حتى ما عاد الناسُ بحاجةٍ لمن يحدثُهم عنه أو يخبرهم بوجوده، إذ لا فائدةَ من الحديثِ عن مرضٍ استعصى علاجُه، وليس أمام الناسِ إلا أن يتعايشوا معه كما يتعايشُ مريضٌ مع داءٍ عُضال ألَمَّ به، إنه لا يتعايشُ مع المرضِ بقدرِ ما أنَّه يريدُ أن يستمتعَ بما تبقى له من أيامٍ قلائل، ويريدُ أن يموتَ مرةً واحدةً بدلاً من أن يموتَ ألف مرة، لذا أتمنى من صميمِ قلبي أن يُمنَعَ الحديثُ عن الفسادِ في كلِ وسائلِ الإعلام، وأن تُستبدَلَ قيمُ الأمانةِ والعدلِ والإخلاصِ في مناهجنا الدراسيةِ بشيء آخر، فإنَّ ذلك أنفعُ للناسِ وأكثرُ راحة نفسية، وحتى لا ينشأ لدينا جيلٌ جديدٌ مُصَابٌ بازدواجيةٍ في الشخصية، يُقَالُ له شيء ويعيشُ شيئاً آخر، فعلينا أن نتعايشَ مع الفسادِ بدلاً من لعنه، وعلينا الدعاءُ للفاسدين بالهدايةِ بدلاً من سبهم!