أتذكرين حينما سألتكِ ذات طفولة: «من هي أجمل فتاة بالعالم؟» فقلتِ لي بحنو إنها ليست «سنو وايت» بل أنتِ يا ريما! رسمتُ يومها ضحكتي على صدركِ.. سرّحتُ شعري الطويل بعناية.. لوّنت شفتيّ بملمّعٍ شفاف.. وأكملت حواري معكِ. أزّ الباب أزيزاً حاداً.. دخلتْ أمي.. صفعتْ وجهي بلفظٍ نابٍ لأني لم أحسن كنس الفناء كما ينبغي.. أجالت بصرها في أرجاء الغرفة.. لم تلحظ بقايا الثرثرة التي أطبقتُ فمي عليها.. لم تنتبه لفراشات الضحك التي تطايرت وفرّت نحو الأعلى والتصقت بالسقف.. صمَتنا قليلاً ريثما خرجتْ.. أوصدتُ الباب وانهمكنا من جديد في حديثنا الطويل. لم تكن لحكاياتنا رائحة نفاذة كتلك التي يطلقها أبي من جوفه وهو يدخن النرجيلة فتجوس في حجرات البيت بينما عيناه تتابعان شريط الأخبار في التلفاز.. رائحةٌ تُربِك معدتي فأهرع إليكِ.. أوصدُ الباب علينا وأخرِج من أحشاء الخزانة بنطالاً قديماً من الجينز وأحشو به الفراغ أسفل الباب. أتذكرين كم بكيتُ حينما اقتلع رامي براعمي في الحديقة وتركها مبتورة الرؤوس ومبعثرة هنا وهناك.. شتمته يومها بأقذع من «غبي» التي أثارت حفيظته فصبّ وقود حرائقه على نباتاتي المسكينة لينتقم مني.. كرهته حينها كما لم أكرهه من قبل.. وقفتُ بين يديكِ.. سألتكِ دون أن أجفف دمعي «من هي أجمل فتاة باكية في العالم؟» أصغيتِ إليّ.. كان صمتكِ صبوراً في كل مرة أعيد فيها طرح أسئلتي عليكِ تبعاً لحالاتي المزاجية.. وكنتِ ترسمين لي سعادة محتملة تُنسيني بؤسي وتمنحيني ضحكة لم أطرق باباً لها. أعرتكِ كل أحلامي وتركتِ لي الأمنيات مصفوفة بعناية كالهدايا في الحفلات التذكارية.. أصغيتُ إليكِ في دهشة وأنتِ تبثين إلى قلبي حديث الضوء وتفككين بهدوئكِ المعتاد تشابك العقد الصاخبة في ذهني وتحرصين على مراقبة تفاصيلي بعينين مفتوحتين ليلاً ونهاراً.. لم أنفق من جعبة الكلام الكثير، فالدهشة واللوعة والدمع والضحكات كلها تحسنُ صوغ مشاعري دون الحاجة لأن أتفوه.. يكفي أن أنداح هكذا أمامكِ بعفوية فيغادرني الأسى تماماً كما أصفف شعري فتتساقط بعض أجزائه الميتة دون أن تكترث لها أسنان المشط.. كعصفور صغير مذعور ينثر قفزاته بين فتات الخبز ليملأ حوصلته ويطير ناسياً جوعه وخوفه قبل لحظات. فكرتُ كيف لي أن أكافئ صبركِ.. لن ترضيكِ مثلي دُمىً ذات أعين برّاقة وشفاه باسمة.. لن ترضيكِ دببٌ قطنية بلونٍ زهري برّاق تبسُمُ حين تضمّها ذراعان وتقول: «أهلاً».. لن ترضيكِ قطع الحلوى وألواح الشوكولا والسكاكر.. ماذا تراه يرضيكِ لأجلبه. ومضتْ في رأسي فكرة.. أسرعتُ لحصالتي.. أفرغتها.. أحصيت ما بجوفها.. خبأته في جيبي.. من خلف الباب الخارجي تلصصتُ يمنة ويسرة.. لم أجد أثراً لرامي.. ركضتُ قاصدة دكان عم محمد بائع التحف العجوز.. ألفيته متكئاً على بساطٍ من حصير متآكل الأطراف وقد اختلطت أهزوجته الشجية برائحة الخبز الشهي التي تنبعث من باحة بيته.. اخترتُ تحفة خزفية على شكل زهرة دوارِ الشمس.. دفعتُ له الثمن وهرعت مُسرعةً نحو البيت.. أغلقتُ باب حجرتي.. تنفستُ طويلاً.. حللتُ الغلاف.. وضعتها على يمينكِ.. أحضرتُ قصاصة من ورق.. رسمتُ بالألوان الخشبية إطاراً من الورد حول أطرافها.. طويتها وحشرتها في الفراغ الضئيل بين سطحكِ الأملس وإطاركِ الخشبي بعد أن كتبتُ فيها: «أحبكِ مرآتي».