حينما ننظر بتمعُّن إلى تاريخ الفن، وتحديداً إلى تاريخ الرسم والنحت والتصوير، سنجد أن الإبداع في هذه الأنشطة أو في سواها من الأنشطة الفنية لم يكن ليتحقق لو لم يوجد من الفنانين من خرجوا عن المألوف وتمردوا على ما هو قائم من أنماط فنية متعارف عليها في أوقاتهم، وأبقوا أعمالهم ضمن المسموح والمقبول والمألوف ولم يقدموا الجديد المختلف. إن هذا النوع من التمرد هو الذي قاد خيالهم لإنتاج تلك الأعمال التي نعدُّها اليوم في قمة الإبداع، فلم يقتصر خروجهم عن المألوف خاصة في مدارس الفن التشكيلي على طريقة الرسم، وفي تجسيد الأفكار بصور جديدة غير معروفة من قبل، بل وفي استخدام الألوان وطرق المزج بينها. يقول الفنان الهولندي فان كوخ «إنني بدلاً من محاولة نقل ما نراه نقلاً أميناً، أستعمل الألوان اعتسافاً دون التقيُّد بالطبيعة من أجل التعبير عن نفسي تعبيراً أقوى». إن ما يمنح الفن – كنتاج معرفي- صفاته الإبداعية سعيه الدائم إلى اقتحام الآفاق المجهولة بطريقته الخاصة المتجددة، هذا السعي الذي لم يكن في يوم من الأيام أمراً سهلاً، يأتي من أن طريق الإبداع والتميز في المادة الفنية المنتجة يحتاج تجاوُز ما هو مُثبت، ومُعترف به ومُحصن من قبل النظام السائد الذي لا يقتصر على السلطة السياسية، بل وعلى الأعراف والعادات والتقاليد والمنظومة الرؤيوية التي لا تقبل بهذا التجاوز وتعده خطراً عليها. ومن هنا ينشأ الاختلاف بين المبدع وبين هذه السلطات، ومن هذه الزاوية أيضاً يمكن الربط بين ازدهار الفن وهامش الحرية المتاح للفنانين المنتمين إلى مدارس ثقافية مختلفة تهدف إلى خدمة الإنسان وتمجيده، فكلما كان سقف الحرية عالياً كلما وجدنا أن الفن يأخذ أنماطاً وأشكالاً إبداعية جديدة لم يخبرها المجتمع من قبل. ويمارس الإنسان -الفنان- من خلال هذه الأشكال نشاطاً تحررياً يسعى من ورائه إلى بناء عالم جديد منعتق من الماضي البالي العاجز على النهوض بالإنسان إلى مستويات حضارية أكثر تقدماً وإنسانية. وهذا لا يعني أن هذا الفنان المبدع يعيش خارج عصره أو زمانه، فما يُنشِئه ما هو إلا حصيلة تفاعله مع عصره ومحيطه، حيث يستمد مادته من المؤثرات السائدة التي يتأثر بها فيتفاعل معها ويقدم ما يفرزه خياله من إبداع، عاكساً بذلك رؤيته الثقافية لهذه المؤثرات، التي ينقلها للمتلقي من خلال عمله الفني. وهذا ما جعل السلطات التي أشرنا إليها سابقاً تهاب الإبداع وتخشاه، لما له من تأثير على المتلقي، فابتدعت أشكالاً شتى لمحاصرة الفنانين وممارسة الرقابة عليهم ومنعهم من تقديم إنتاجهم بالصور الخلاقة التي تجذب المتلقي فيتفاعل معها ويقبل برسالتها المنطوية في مضمون وشكل هذا العمل الفني. مقابل هذه الرقابة التي تنوعت أشكالها وتباينت مصادرها وتعددت وسائلها، كان هناك دائماً صنف من الفنانين يقاوم هذا الحصار بتقديم المنتج الجديد القادر على تخطي كل هذه الحواجز والقيود، فيتألق فيما ينتجه ويبدع فيه، وهناك صنف آخر ينكفئ على نفسه ويختار الانعزال، فلا يقدم ما لديه من إبداع ويختار السير بجوار الحائط الآمن، والانغلاق على الذات غير عابئ بأمور مجتمعه ولا مكترث بما يجري فيه، فينحرم المجتمع من مواهبه وتتلاشى قدراته دون أن ينتفع بها أحد، وهناك من يقدِّم إنتاجاً هزيلاً خالياً من أي خيال إبداعي لمجرد مجاراة الوضع السائد وعدم مواجهة الرقابة، فيقوم ليس فقط بإفساد ذوق المتلقي، وإنما بإبعاده عن الاستمتاع بالقيمة الروحية للفن كمنتج معرفي يهدف إلى الارتقاء بالحس الوجداني لأفراد المجتمع وتنمية المشاعر الراقية بينهم. وهذا ما يجعل من الرقابة عدوَّة تاريخية ليس فقط للفنان المبدع، بل أيضاً للطرف الآخر المتلقي والقارئ للعمل الفني؛ فممارسة دور الوصي على المتلقي أو المشاهد تحد من تنمية قدراته الذهنية والوجدانية، فتجعله عاجزاً غير قادر على الاختيار وتمييز الجيد من السيئ. وهنا تأتي قيمة الحرية – كصديقة للمبدعين- التي تتيح للإنسان الفرصة في الحكم بنفسه على ما يشاهده ويسمعه، وفي اكتشاف وتذوق الإبداعات الجديدة التي لم تحاصرها أو تشوِّهها قيود الرقابة. إن تذوق الفن كعملية معرفية تراكمية تنمو وتتطور من خلال الممارسة المتعددة والمتواصلة وغير المقيدة، وتتناقض مع الوصاية وتحديد الأشكال الفنية التي على التشكيلي أو المصور التقيد بها والبقاء ضمن أطرها المرسومة له، فهذه لا تتيح لهذه الممارسة أن تنمو أو تتقدم، بل تفشل وتتآكل. إن الظروف التي يمكن لأي فن تشكيلي محلي، بما في ذلك الحركة التشكيلية السعودية، التطور والتقدم وبلوغ العالمية، هي تلك التي ليس فيها للبيروقراطي أي دور وصائي على ما يُقدم للجمهور. إن البيروقراطي «الرقيب» مهما كانت معارفه وتأهيله التعليمي لن يكون بقادرٍ على الخروج من عباءته الرسمية، وسيمارس مهامه من موقعه الذي يشغله والكرسي الذي يجلس عليه، وهو ما يجعل من القرار الصادر مؤخراً «القاضي بمنع إقامة المعارض التشكيلية أو الفوتوجرافية دون أخذ الموافقة الرسمية من الجهات المختصة، وضرورة إجازة هذه الأعمال الفنية من جانب وزارة الثقافة والإعلام قبل عرضها بالتنسيق مع الجهات الأمنية ذات العلاقة»، مهما كانت مبرراته والأسباب التي دعت لإصداره، تكبيلاً للحركة التشكيلية السعودية الفتية التي هي في أمسِّ الحاجة للعمل بحرية ودون وصاية رقابية من أي جهة كانت.