استقبلت قبل أيام صديقا قديما. وقلت له مازحا لماذا لا نلتقي في أحد المقاهي في مجمعاتنا التجارية العامرة؟ قال لي إن المقاهي التي يفكر فيها هي غير المقاهي المترفة التي أقصدها. مضينا باتجاه الطرف الغربي من الخُبر بحثاً عن المقهى المقصود. بعد أن اجتزنا سوق الغنم استدرنا لندخل زقاقاً يمتلئ بالحفر وصناديق الزبالة والمياه المتسربة في الطرق. مضينا قليلا فإذا نحن أمام مئات السيارات المصفوفة بشكل عشوائي بين مقهيين أو ثلاثة. بعد دوران طويل أوقفنا سيارتنا على مسافة بعيدة ومشينا باتجاه المقهى. المباراة بين ميلانو وبرشلونة كانت قد بدأت للتو، وكان الشباب من مختلف الأعمار قد احتلوا كل ردهات وأركان المقهى، صعدنا إلى الدور الثاني وبحثنا عن الغرف المعدة للتأجير لكنها كانت محتلة بالكامل. ووجدنا العشرات مثلنا يصعدون ويهبطون بحثاً عن مقاعد لكن لا أمل. كانت شيش الجراك أو المعسل في كل الأرجاء، والعاملون يركضون بلا هوادة لخدمة زبائنهم الذين هجموا بكثافة على المقاهي لأمرين: إجازة نصف العام، والمباريات الحماسية. سحب الدخان التي تنفثها الأفواه بين الجدران المغلقة وفوق الأرضيات الزلقة تحمل أي قادم جديد على الشعور بالاختناق.لم نتمكن من الحصول على مقعد واحد خاصة وأن الحشود أصبحت في ازدياد على رائحة المباراة العالمية. لم أعرف ولم أقتنع يوماً بأن فكرة طرد المقاهي مع ألوف الشباب خارج المدن ستسهم في نظافة مدننا ونقاء بيئتنا وانخفاض مدخنينا أو تقلص طعنات السرطان القاتلة...! الحقيقة أن الشريحة الكبرى من الشباب والشابات يدخنون، وأنهم يرتادون تلك المقاهي، ولذا فإن إنكار هذه الحقيقة والتعامل معهم كأناس خارجين على النظام وأن علينا إبعاد أماكن تجمعهم عن مرمى نظرنا هي فكرة خاطئة، فعزل هذا الكم من الشباب دون أية رقابة صحية أو بلدية أو سلوكية هو أمر يؤدي إلى شرور كثيرة. لا تكاد تمر خطبة أو لقاء مع مسؤول أو غفير دون أن يتطوع للحديث عن الشباب وأهميتهم في بناء الأوطان والتنمية وصناعة المستقبل. الإخوة المسؤولون في الإمارة والأمانة والشؤون الاجتماعية والصحة والتعليم، كلهم معنيون بحياة ومعاناة هذه الشريحة المهمة في مجتمعنا. أولئك الذين ينظرون إلى أن الشيشة عار وأن على من يغرم بها أن ينفى من حيّه ومدينته، ماذا يعرف عن حاجات الشباب الحقيقية؟ ولماذا لم يفكر أين يفرغ هؤلاء الأبناء والبنات طاقاتهم وشحناتهم ومواهبهم وأوقات فراغهم؟ ولماذا انعدمت أمامهم كل وسائل الترفيه فلا يعرفونها إلا على شاشات الفضائيات. أين مسارحهم؟ وأين قاعاتهم السينمائية؟ وأين مكتباتهم الحية المعاصرة؟ وأين متاحفهم؟ وأين موسيقاهم وحفلاتهم وصالاتهم الفنية؟ وأين مراكز رعاية مواهبهم وإبداعاتهم؟ وأين...؟لماذا حلت الدول المجاورة معضلة المقاهي فأوجدت مقاهي محترمة قادرة على تلبية احتياجات الناس؟ وتمكنت من جعل المقهى مكاناً لتلاقي الأهل والأصدقاء وتبادل الأحاديث والأخبار والاختلاط بالبشر؟ عندنا فقط تزدهر فلسفة المنع والقفل والحجب، واللامسؤولية... ولا أحد، من أصحاب البشوت الفضفاضة، يتفضل لزيارة ألوف الشباب في تلك المقاهي ليستمع إليهم ويتعرف على ملامحهم واحتياجاتهم ويمنحهم أملاً ما!