أبدى عدد من المختصين والأكاديميين قلقهم من تنامي ظاهرة تسرب الطلاب والطالبات من التعليم الجامعي إلى مستويات تفوق 29% من إجمالي المتقدمين له، التي بدأت تتجلى في عدد من الجامعات بخاصة في جامعة أم القرى. وردوا تلك الظاهرة إلى حالة الانسداد الوظيفي التي يعاني منها خريجو الجامعات، التي أثارت حالة من التردد لدى الطلاب المستجدين في السنوات الأولى من التعليم الجامعي. ونسبوا جانباً من التسرب إلى عدم تحقق رغبات هؤلاء المتسربين في الالتحاق بالأقسام المتاحة أو المفضلة لديهم، فيما أرجعه بعضهم إلى الافتقار للتخصصات الدقيقة للفتيات كالديكور والتصميم والتصوير، بينما يرى آخرون أن سبب تسرب الطلاب والطالبات وعزوفهم عن إكمال الدراسة الجامعية هو عدم تيقنهم من الحصول على وظيفة مستقبلاً حتى مع تحقيق مميزات دراسية جامعية كالتفوق أو اختيار التخصصات النادرة. وأكدوا أن نظام الانتساب لم يعد مجدياً نظراً لأنه نظام تقليدي يحرم الطلاب والطالبات من حقهم في التميز، إضافة لشروطه التي قد تكون أشبه بالتعجيزية، مطالبين بضرورة وجود إرشاد أكاديمي وتوجيه مهني على أيد متخصصين في هذا المجال ليتم من خلالهم تحديد ما يناسب متطلبات السوق ويناسب قدرات الطلاب. وبلغ عدد الطلاب المتسربين من جامعة أم القرى ممن جرى قبولهم في العام الدراسي 1433 – 1434 ه 4709 طلاب وطالبات من بين 16291 طالباً وطالبة جرى تثبيتهم في الجامعة، وكانت النسبة الأكبر من المتسربين من الطلاب. وكشف عميد القبول والتسجيل في جامعة أم القرى الدكتور محمد الحازمي عن أن مجموع عدد الطلاب الذين تم ترشيحهم للقبول من مختلف مناطق المملكة بلغ 11127 طالباً أما مَنْ تم تثبيتهم فبلغ عددهم 7081 طالباً، فيما تسرّب 4046 طالباً منهم 2749 متسرباً بمنطقة مكةالمكرمة معظمهم من محافظتي جدة والطائف وعددهم 1946 طالباً و803 طلاب من بقية المحافظات. أما مجموع الطالبات اللاتي تم ترشيحهن للقبول من مختلف مناطق المملكة، فبلغ 9847 طالبة ثبت منهن 9211 طالبة، وتسرب 663 طالبة، لافتاً إلى أن عدد المتسربات من منطقة مكةالمكرمة بلغ 616 طالبة معظمهن من محافظتي جدة والطائف، وعددهن 498 طالبة و118 طالبة من بقية المحافظات. كما بلغ إجمالي الطلبة في المؤسسات التعليمية بنظام الانتساب لعام 1432-1433ه 78665 طالباً بينهم 26743 طالبة. ولم ينف عدد من طالبات الانتساب وجود تلك الظاهرة، بل أكدنها كاشفات عن تفسيرات مختلفة. وكان أبرز ما أشرن إليه أن عدم وجود تخصصات تناسب إمكاناتهن وقدراتهن المختلفة وتراعي ظروف بعضهن أدى لهذا العزوف والتسرب. وأكدن أنهن لجأن إلى الدراسة بنظام الانتساب للحصول على درجة البكالوريس، ولا هدف غير ذلك في ظل شح الوظائف والأقسام المتطورة في الجامعات. وذكر عدد من الطالبات بنظام التعليم عن بعد أنهن مهددات بأن يشملهن التسرب الجامعي قريباً بسبب المبالغ التي تدفع نظير التعليم عن بعد في الجامعات السعودية. وقلن قد نستطيع السداد أول سنة أو سنتين، لكننا قد لا نستطيع بعد ذلك، حيث إن هناك كثيراً من الطلاب والطالبات في الجامعات حصلوا على منح دراسية رغم أن ظروفهم المادية جيدة جداً وطالبن بالنظر في استحقاق المنح الدراسية. وتعتبر عضو مجلس الشورى وعضو هيئة تدريس قسم علم النفس في جامعة الملك سعود الدكتورة وفاء محمود طيبة تسرب الطلاب والطالبات من الجامعات مشكلة تتطلب دراسة مستفيضة للتصدي لها، خاصة أن نسب التسرب ليست قليلة. ورأت التسرب هدراً في استثمار القوى البشرية التي هي الهدف الحقيقي للتنمية ووسيلتها. أما عن مسبباته فرصدت مجموعة من العوامل الاجتماعية والنفسية والأكاديمية والمعرفية. وقالت ما زلت أذكر كلمة ابنتي عندما التحقت بالجامعة في سنتها الأولى، وكانت في مدرسة أهلية قبل ذلك، حين قالت لي (الآن عرفت الدنيا!) بمفهومها البسيط للدنيا آنذاك. وبيَّنت أن الحياة الجامعية تختلف اجتماعياً عن المدرسة، وإن كانت تتمحور حول التعليم أيضاً، ففي الجامعة يقابل الطالب أناساً كثيرين من طبقات مختلفة وشخصيات مختلفة، ويضطر للتعامل معهم، وهناك التزامات وأنشطة مختلفة عن المدرسة، ولا ننسى نظرة الأسرة للتعليم وأهميته، ومسؤوليات الطالب والطالبة المختلفة التي قد تؤدي به إلى البحث عن عمل، وغير ذلك من المشكلات الاجتماعية والعائلية. وتستطرد «طيبة» فتقول أريد هنا التركيز على المشكلات المعرفية والأكاديمية، التي قد يعاني منها الشباب في أول التحاقهم بالجامعة. فعادة ما يكون التسرب في السنة الأولى أو الثانية من الالتحاق بالجامعات، حيث قد تكون رغبات الطالب أو الطالبة غير مدروسة من جهتهم، ومن ثم يلتحقون بتخصص ما لأسباب غير علمية، وغير واقعية ولا تتفق مع قدراتهم. وربما وجدوا صعوبة في الالتحاق برغباتهم الأولى أو الثانية أو حتى الثالثة في الجامعة، فيضطرون للالتحاق بتخصص لا يرغبون فيه، وتمر الأيام التي تباعد بينهم وبين هذا التخصص بسبب عدم التطابق بينه وبين ميولهم وقدراتهم، ما يوجد حالة من عدم الرضا، وينتهي بهم الحال إلى التسرب وترك الجامعة. وألمحت إلى سبب آخر وهو عدم توافر التخصص الذي يشبع طموح بعض الطلاب والطالبات في جامعاتنا، وإن كانت جامعاتنا تنمو الآن وتتعدد فيها التخصصات بخاصة بالنسبة للإناث. وأشارت إلى مجموعة من المهارات والقدرات التي قد يمتلكها الطالب أو الطالبة وتخرج عن نطاق جامعاتنا، مثل المهارات الفنية والتقنية والمهنية، ورغم أن مثل هذه المهارات والمهن المعتمدة عليها مهمة جداً، وهي تخصصات يحتاج إليها سوق العمل ربما في بعض الأحيان أكثر من بعض التخصصات النظرية، إلا أنها تعاني من نظرة متدنية لها في المجتمع، فلا تجد الإقبال المناسب ولا التطوير الكافي لها كمجال دراسي، فنجد بعض الطلبة يلتحق بالجامعة في تخصصات لا تروق له رغبة في الحصول على شهادة، بينما قدراته وإبداعاته ليس مجالها العلوم النظرية في الجامعة قدر ما هي في المهارات المهنية الضرورية، والمهمة لقيام الحضارة، التي تتوافر في الكليات التقنية. وأبانت طيبة أن لضعف مخرجات التعليم العام دوراً في تسرب بعض الطلبة، فبسبب بعض الأنظمة والممارسات الخاطئة من المعلم أحياناً يمرر التعليم العام شباباً لا يمتلك القدرات العقلية المساندة للتعليم الجامعي، والسمات النفسية الضرورية له، مثل التحليل والتفكير وحل المشكلات، والمثابرة والصبر والدافعية العالية. وغالباً لا يكون هؤلاء مؤهلين إطلاقا للجامعة، ليس لنقص في الذكاء أو المهارات، وإنما لشكل أو آخر من أشكال صعوبات التعلم التي لم يكتشفها أحد، وصعوبات التعلم لا علاقة لها بالذكاء، بل قد يكونون من أذكى الأذكياء ولكن يظل الطلبة يدورون حول مشكلاتهم دون أي مساعدة، حتى يصلوا إلى الجامعة، وهناك يصطدمون بسلسلة من العقبات الجديدة لا بد من التعامل معها بطريقة مختلفة وتحتاج لمهارات أخرى غير المدرسة، فلا يستطيعون الصمود وينسحبون من الجامعة. وقد بدأت وزارة التربية والتعليم في الانتباه لهذه المشكلات التعليمية، ولكن ما زال أمامنا مشوار طويل، في المدرسة وفي الجامعة بالبرامج المساندة لكل نوع من المشكلات. واعتبرت أن غياب الإرشاد الأكاديمي والتوجيه المهني على أيدي متخصصين المشكلة الأولى والأهم في ظاهرة التسرب الدراسي من الجامعات، في الوقت نفسه الحل، فالإرشاد الأكاديمي والتوجيه المهني يمكنهما التعامل مع كل المشكلات السابقة بالقياس والتحليل والتوجيه، واضعين في الاعتبار حاجة سوق العمل، قبل وأثناء الدراسة الجامعية، ومن ثم مساعدة الطالب على الاختيار والتصدي للمشكلات ومؤازرته في الطريق. من جانبه، قال الإعلامي والمستشار الأكاديمي الدكتور عبدالله بن فلاح الناهسي «لظاهرة التسرب أهمية بالغة على المستوى الاجتماعي والثقافي» ، مشيراً إلى أن لها أسباباً متعددة رفعت معدلات التسرب قبل ثلاث سنوات إلى أكثر من 60% على حد ما صرح به عدد من المسؤولين بناءً على دراسات وإحصاءات دقيقة. وبيّن أن من أهم أسباب تلك الظاهرة، عدم تناسب كثير من التخصصات مع رغبات كثير من الطالبات، وبخاصة التخصصات الدقيقة التي تحتاج إليها المرأة، مثل: الطبخ والديكور والتصميم والمواد العلمية المتعلقة بطبيعة وسيكولوجية المرأة السعودية. ورأى أن ثمة عوامل اجتماعية لهذه الظاهرة ترتبط ببعض العادات والتقاليد وثقافة العيب، ناهيك عن الأوضاع المالية التي تعترض بعض الأسر، التي تكون حائلاً دون مواصلة الفتيات لدراستهن، التي تتطلب وقفة جادة من الجهات ذات الاختصاص مع تكامل وتناغم للحد من ظاهرة التسرب بالوقوف على الأسباب ومعالجتها من خلال تلبية وتحقيق رغبات الفتيات. ورأى الناهسي أن نظام الانتساب غير مجدٍ في مقاومة التسرب الجامعي للطالبات، مشيراً إلى أن الفتاة تتفوق على الشاب من خلال بعض القدرات العقلية التي تتطلب استمرار الدراسة والتعلم، ما جعل من نظام الانتساب غير مناسب للفتيات نظراً لتسلل البرود وعدم الرغبة في الاستمرار لانقطاع المعلومة وضعف الموارد المعرفية. وأضاف أن الانتساب هو تعلم تقليدي يصيب بالممل ولا يشجع على التميز والإبداع بسبب طبيعة وطريقة التعليم من خلال طول الفترة الزمنية وقلة المناهج الدراسية وغياب المواد الإثرائية الإضافية، التي تحقق للمتعلم شيئاً من الاستمرارية والأهم هو الارتباط المعنوي والروحي بين المعلم والطالب من جانب، وبين الطالب والمادة من جانب آخر الذي هو ركيزة مهمة في تحقيق أهداف التعليم. وأكدت الأكاديمية والكاتبة فوزية أبو خالد أن الانسداد اللافت الذي يعاني منه خريجو الجامعات في الحصول على عمل بعد التخرج، قد يوجد حالة قلق حقيقية بين الشباب الجامعي إناثاً وذكوراً تجعلهم يتساءلون عن جدوى الدراسة الجامعية على الأقل في علاقتها بمستقبل العمل، وقالت إن هذا قد يولد اتجاهاً جانبياً للانصراف عن الدراسة الجامعية نحو بدائل تعليمية وتدريبية قد تكون أكثر عملية وفعالية في الحصول على فرصة عمل دون الحاجة إلى شهادة جامعية. ** «الشرق» حاولت الحصول على رأي متحدث التعليم العالي محمد الحيزان على مدى شهر كامل إلا أنه تجاهل رسائل واتصالات «الشرق».