حين كنت في إسبانيا كانوا يقولون لي باللغة الإسبانية (كي ني بيستو غرانادا كي بيستو نادا) مَنْ لم ير غرناطة لم ير شيئاً بعد. هذه العبارة أنقلها للقارئ العربي لأقول له لقد فقدنا غرناطة نعم، ولكن تطوان هي بديلها وأجمل، فأنا رأيت الاثنتين؛ فمَنْ لم يزر بعد تطوان لم ير شيئاً بعد. إنها مدينة الروعة بكلمة واحدة. مدينة مسترخية بنعومة بين أحضان الجبال الراسيات. تراها من كل جنب جبالاً أوتاداً تجلس في شموخ وجلال وجبروت. إنها عين الشاعر. إنها نفحة الفيلسوف. إنها ومضات الروح. إنها نبع الحقيقة والجمال. إنها من رياض الجنة على الأرض. جبال مخضرة. ماء مسكوب، وغيوم بيضاء، في سماء زرقاء، في لوحات سريالية لا تنتهي. وأجمل ما فيها شعبها الرائع الطيب الودود الخلوق، يألفون ويؤلفون أحاسن الناس أخلاقاً، الموطَّأون أكنافاً. قلت في نفسي لقد أهدتني المغرب أعظم ما يُهدى لشخص زوجة ودود عروب، وإقامة لمدة عشر سنوات، بين شعب مسلم طيب، ومناخ بديع، ومدن تسبح في بلاد عبقر. كنت أفتح عيني وأقول ترطبي يا عين املأي الذاكرة بالصور فالجالاكسي لا يملأ كل شيء. وهناك اجتمعت بدار الشاطبي بنخبة من أروع الأدمغة في جو ثقافي حافل بالفكر والإيمان والقرآن. وفي الجامعة زرنا عميد الكلية أصله من مدينة بركان، حيث تجلس بين أغصان فاكهة المندرين (اليوسفي). كان متواضعاً عالماً ودوداً قريباً من القلب، وهكذا معظم المغاربة محبون للعلماء، رائعون في الثقافة والقراءة، وكل اليد العاملة مغربية؛ فلا تضيع بين هندي ونيبالي وبنغالي لتكرر معهم أنا في كلام أنت في معلوم؟ هنا في المغرب كتهدر بالمغربية بزاف. كيعقلو عليك، وكي يبغوك. جملة لا تنتهي أهلاً بالسي شريف أهلاً بك في بلدك. كل كلمة شكر يقولون لا شكر على واجب. يعتبرون خدمة الغريب والتقرب إليه واجباً عليهم. حياكم الله أيها الشعب المغربي المكافح المثقف محب العلماء. إنها كلمات بدون مجاملة ونفاق، بل لا تقترب من حقيقتهم الساطعة. أفسحوا لي صدورهم وبيوتهم وجامعاتهم للمحاضرات بدون خوف من فكر جديد. بدون تكفير المختلف وزندقة الآخر. وهناك في تطوان جلسنا بين نخبة رائعة من أهل العبرة والإبصار، في بيت كان تحفة. (الزليج) البورسلان يغطي حتى الجدران. طعامهم صحي رائع طاجين وكسكسي وحوت (سمك). أكلت من سمكة بطول نصف إنسان لحماً أبيض طرياً. لم أصدق ليست ثمة حسكة (شوكة) واحدة. يكرمون الضيف ألواناً وأطباقاً، وفي النهاية عندهم كعب الغزال وهي حلويات باللوز روعة تذوب في الحلق ذوباناً. مدينة تطوان من الداخل قسمان: أندلسي وإسباني على الطريقة الأوروبية. زرنا المتحف فعبرنا الزمن من الحجري إلى الإسلامي. رأيت جمجمة بنصل مخترق من سهم قلت هذا هو الإنسان. تذكرت شبيحة الأسد وبراميل الموت في حلب. في منطقة المرور ليست ثمة سيارات. بيوت بيضاء في غابات خضراء شوارع نظيفة وشعب مهذب، مَنْ يقطع الشارع يحترم فهي عادة راسخة. قلت في نفسي عليَّ العودة لها فقد يكتب الله لي فيها طويل البقاء والاستقرار. مررت على كابيلا والفنيدق ومارتيل والمضيق وكلها تحف تجتمع فيها عبقرية الإنسان وروعة الطبيعة. مَنْ لم يزر تطوان بعد لم يزر مدينة بهذا الجمال.