تزخر كلُّ صحفنا المحليَّة بعشرات الأخبار والمقالات عن الفساد الإداريِّ والماليِّ، فما من كاتب من كتَّاب الرأي وكتَّاب الأعمدة والزوايا اليوميَّة فيها إلاَّ وقرأتُ له عن الفساد مقالاً أو أكثر، وما شاركتُ في جلسة أو منتدى أو صالون ثقافيٍّ أو لقاء إلاَّ وتفتح حواراتها عن الفساد وآثاره السلبيَّة على تنمية الوطن وعلى حقوق المواطن، وأجزم أنَّني سمعتُ أو قرأت عن الفساد وأخباره ما يكاد يغطِّي جميع وزارات الوطن ومنشآته ومؤسَّساته وهيئاته وفروعها في المناطق والمحافظات، وما تشرف عليه من مؤَّسسات أهليَّة أو جمعيَّات خيريَّة. ويصطدمني أكثر من أخبار الفساد الإداريِّ والماليِّ وقضاياه ما يتواتر عن جهاتٍ عدليَّة أو تعليميَّة أو صحيَّة أو دينيَّة أو أمنيَّة، وأتجرَّعها مرارة حينما أتبيَّنها أخباراً موثَّقة بأنَّ قادة الفساد الإداريِّ والماليِّ هم علية القوم من وجهاء ومسؤولين وقياديِّين، وأحبط حينما تكشف الأخبار والمقالات والدراسات أن محرِّكي الفساد الإداريِّ والماليِّ هم أغنياء المجتمع وأثريائه، نهبوا مقدَّرات الوطن وميزانيَّاته وأراضيه الحكوميَّة، وتجاوزوها لأراضي مواطني الطبقتين الوسطى والكادحة وفرصهم الوظيفيَّة والعمليَّة والاستشفائيَّة وأدويتهم وأرزاقهم، وأشعر بالأسى يعصف بكياني حينما أعلم أنَّ الفساد حجب لذوي المحسوبيَّات فرصاً تعليميَّة أو وظيفيَّة عن شباب مؤهَّل وطموح، وحجب حقوقاً وظيفيَّة لموظِّفين مخلصين، وأتميَّزغيظاً حينما أسمع الفاسدين وأتباعهم يتباهون علناً بمكانتهم الوظيفيَّة وبوجاهتهم الاجتماعيَّة، وحين يكرَّمون نفاقاً وتزلُّفاً، وأتوتَّر لحدِّ الاكتئاب حين أتبيَّن آلافاً من ذوي الشهادات غير المعترف بها من المواطنين في جامعاتنا ووزارتنا والساكتين على أمثالهم من الوافدين بعشرات الآلاف في منشآتنا الصحيَّة والهندسيَّة والتعليميَّة، وأتحسّر على وطن يقصي الفاسدون كفاءاته ويهمِّشونها، ويعتصرني الألم لأولئك الفقراء والمرضى والعاطلين من أبناء الوطن وبناته في حين يتستَّر مواطنوهم على الوافدين الناهبين لخيرات الوطن بتحويلاتهم الملياريَّة، ويجتمع كلُّ ذلك من صدمة ومرارة وإحباط وأسى وغيض وتوتُّر وألم حينما يطبِّل إعلاميُّون لأولئك الفاسدين مع علمهم بفسادهم. وأكاد أجزم أنَّ معظم أولئك المدَّعين الحفاظ على المال العام بإعاقتهم القرارات الملكيَّة بتثبيت العاملين في أجهزة الدولة، المسوِّفين بتعيينات أبناء الوطن وبناته على وظائف شاغرة أو مشغولة بوافدين، والمعوِّقين لاسترداد المعلِّمين والمعلِّمات حقوقهم أو بالحيلولة دون تعيينهنَّ بامتطاء شرط الإقامة، وأولئك الممانعين دون توزيع الأراضي الحكوميَّة على ذوي الدخل المحدود، وأولئك المؤجِّلين لمشروعات التنمية إقراراً أو تنفيذاً، أو المنفِّذين لها أو المستلمين لتنفيذها دون مواصفاتها، وأولئك الذين يحولون دون استشفاء المرضى من المواطنين بمستشفياتنا التخصِّصيَّة أو في خارج البلاد، أجزم أنَّهم وغيرهم ممَّن حرموا المواطنين حقوقهم في خيرات الوطن وفرصهم في التعليم والعمل فاسدون مستفيدون من مواقفهم وإجراءاتهم التَّعسفيَّة، بل وأجزم أنَّ وازعهم الدينيِّ دون أن يمنعهم من ظلم النَّاس وأكل حقوقهم، وأنَّهم افتقدوا الشعور الوطنيُّ والإحساس بالعدالة الاجتماعيَّة، وأنَّهم لا يعرفون للشفافيَّة ولا للنزاهة معنى ولا طريقا. وتكاد تصعقني مطالبات للهيئة الوطنيَّة لمكافحة الفساد أن تتصدَّى لذلك كلِّه وتعالجه كلَّه وهي لم تكمل عامها الأول نشأة وعملا، وتكاد تفلقني عبارات السخرية والتَّهكم المنطلقة من متحدِّثين أو كتاب عنها وكأنَّها أصبحت حلقة من منظومة الفساد الإداريِّ والماليِّ، ويكاد يعصف بي وعيٌّ ثقافيُّ واجتماعيٌّ وإعلاميٌّ ينحدر لهذا المستوى في مطالباته للهيئة الوطنيَّة لمكافحة الفساد وتقويمه لأدائها، ويكاد هذا التَّسرع وتلك الأحكام أن تفقدني وتفقد وطني أملاً كبيراً وواسعاً بالمستقبل. لذلك وفي عتمة واقع الفساد الإداريِّ والماليِّ المستشري في وطني وفي ضوء أهداف الهيئة الوطنيَّة لمكافحته سأطرح استقراءاتي أمام قراءاتي تلك وآمالي فوق آلامي تلك متوجِّهاً بذلك إلى المواطنين، فالهيئة نشأت بالأمر الملكي في 13/ 4/ 1432ه، فهل يا ترى عشرة أشهر كافية: – لتكوينها هيكلتها الإداريَّة وهي هيئة لم تنشأ وفق تجربة سابقة أو على مثال سابق. – لوضعها أنظمتها ولوائحها التنظيميَّة لأداء مهمَّة معقَّدة تتَّصل بمجموعة كبيرة بيدها المال والسلطة والمسؤوليَّة، يخطِّطون للفساد بسريَّة واحترافيَّة ليتلافوا انكشافهم للمواطن وللنظام. – لاختيارها أعضائها وموظَّفيها ومراقبيها ومحقِّقيها وهم نوعيَّة خاصَّة تتطلَّب تحريّاً واستقصاءً واسعين لسيرهم الذاتيَّة المتميِّزة بالعدالة والنزاهة والشفافية، والعثور على أولئك في محيط من الفساد ليس بالمهمَّة السهلة. – لوضعها خططها الإستراتيجيَّة العمليَّة للحيلولة دون الفساد مستقبلاً ولاكتشافه في الماضي والحاضر وإدانة الفاسدين قضائيّاً وإداريّاً، بحيث لا يتمكَّن أولئك من التواري أو الهروب بمكتسباتهم من الملاحقة. – لمكافحتها الفساد في جميع أجهزة الدولة ومنشآتها ومشروعاتها وعلى مدى امتداد زمنيٍّ قد يعود لأربعة عقود. – لتقويمها الأنظمة وعقود المشروعات الحكوميَّة، وللاطلاع على دراساتها ومواصفاتها وعلى تقارير تعثُّرها أو استلامها، وعلى شكاوى المواطنين وبلاغاتهم ودراستها لاستبعاد الكيديِّ منها. – لتكوينها فرق دراسات ومتابعات وتحرٍّيات تغطِّي كلَّ مواقع الفساد في وطن مترامي الأطراف، في كلِّ بقعة خدمة أو مشروع تنموي أو إدارة حكوميَّة، إنَّها بحاجة لموظَّفين ومراقبين ودارسين ومتابعين ومحكَّمين بما يزيد على حالات الفساد وهي بعشرات الآلاف وعلى الفاسدين وهم بمئات الآلاف ولتغطية الزمن الماضي والحاضر. – لافتتاحها فروعها في المحافظات والمناطق وتزويدها بموظَّفيها. وبعد ذلك فإنِّي أقترح على الهيئة الوطنيَّة لمكافحة الفساد البدء بتقويم أعمال الأجهزة الرقابيَّة في الوزارات ومساءلتها عن تقصيرها في مكافحة الفساد، وبتطويرها بأنظمة وبموظَّفين من ذوي النزاهة والعدالة، وباستبعاد منسوبيها ممَّن لم يحقِّقوا الأهداف الرقابيَّة في مواقعهم، وأن تتعاون مع موظَّفي الدولة المعروفين بنزاهتهم وعدالتهم وهم في مواقعهم وبسريَّة ليطلعوها على حركة الفساد الإداريَّة والماليَّة وحالاته وقضاياه، وليسهموا معها بتحرِّياتها وتحقُّقاتها من ذلك، وأن تتعاون مع المتقاعدين لإدارة فروعها في المحافظات والمناطق وللقيام بأدوارها، وأجزم أنَّ الهيئة ستحتاج لثلاث سنوات للحكم على إنجازاتها في مكافحة الفساد والحدِّ منه، فلينتظر المتسرِّعون وليتعقَّل الساخرون.