حينما كانت المعلمة تشرح قصيدة «اليتيم»، سرحت هي بخيالها، ومسكت قلمها تشكل ما رسمته في ذهنها على ورقة بيضاء، أم تقبض على يد ابنتها ودمعة تسيل من محجر عينيها، لتكون اللوحة الأولى لها، وتمهد لدخولها عالم الفن التشكيلي. شعاع الدوسري، التي نشأت وسط أسرة محبة للفنون، اختارت تشكيل خارطة طريق حياتها كما تحب، رفضت أبواب الجامعات المشرعة أمامها، لتلتحق بمعهد المعلمات، كي تدرس الفن التشكيلي، وتكون معلمة تربية فنية، وأبت عقب تعيينها معلمة، أن تتحول إلى معلمة علوم ورياضيات، واتجهت إلى المجال الذي تحب. «الشرق» التقت الدوسري للحديث عن ارتباطها بالفن التشكيلي، وعن رأيها في الحركة التشكيلية السعودية، والصعوبات التي تواجه التشكيلي في المملكة، إضافة إلى تطلعاتها في هذا المجال، فإلى نص الحوار: - نشأت وسط أسرة محبة للفنون، والدي موظف في أرامكو، مثقف ومنفتح، وخطه جميل، كان يأخذني للمكتبة أشتري أدواتي الفنية ثم يحملها عني، كما كان يأخذني للمعارض التشكيلية، وسألني ذات مرة إن كنت أود أن أصبح فنانة مثل بدرية الناصر، وهي فنانة سبقتنا في هذا المجال في المنطقة، أمي عندما لمست موهبتي نأت بي عن المطبخ، وكانت تشتري لي القفازات والكمامات لكيلا أتضرر من رائحة الألوان، شقيقتي الكبرى أهدتني دفتر تلوين وألوانا وأنا في الصف الرابع فكانت أجمل هدية تتلقاها طفلة تحب الرسم، ما زلت أذكر وأنا في الصف الأول الابتدائي كيف أن زميلاتي كن يقفن في طابورا كي أرسم لهن رسومات كتاب العلوم مثل الأسماك وغيرها. في الابتدائية الثامنة في الدمام، في الصف الرابع، في حصة اللغة العربية، المعلمة كانت تشرح قصيدة «اليتيم»: «أيها اليتيم في العيد كم تثير شجوني»، وأنا كنت سارحة أرسم كلمات القصيدة، أم ممسكة بطلفها ودمعة كبيرة تسقط من عينيها، لفت ذلك نظر معلمتي سامية السعدي، فطلبت مني الانضمام لجمعية الرسم في المدرسة ورسم اللوحة فكانت «اليتيم» أول لوحة فنية في حياتي. - بعد ذلك، أسندت الجمعية الخيرية النسائية في الدمام للفنانة المنيرة الموصلي مهمة الإشراف على الفنون التشكيلية، فبحثت عن المتفوقات في المادة (التربية الفنية) في المدارس، فتم ترشيح شعاع كإحداهن. ذهبت إلى الجمعية في حي العدامة، كان مبناها مستأجرا، والمرسم صغير في غرفة أعلى المبنى، كنا كثيرات، وبعد أربع سنوات لم تتخرج سوى أنا ومنى النزهة، كانت دراسة أكاديمية، تاريخ الفن، والتشريح، والطبيعة الصامتة، والظل، والضوء، الكولاج، السلويت، وأخذتنا نرسم الطبيعة، فرسمنا قلعة دارين عندما كانت لا تزال قائمة، عملنا أنشطة في جامعة الملك فيصل، وفي قاعة سكة الحديد، واستضفنا الأديب محمد العلي، وكرمنا أحد الفنانين، كان يرسم بفمه، لأنه دون يدين، أثرت فيّ تلك الفترة، كنا نجتمع ونضع خطة شهرية ننفذها بحذافيرها، كنت أريد تكملة دراستي الجامعية، ولعدم وجود قسم تربية فنية أصبحت معلمة للتربية الفنية بعد معهد المعلمات، نفس المشكلة ما زالت مستمرة، وتواجه ابنتي، إلى متى سوف تستمر المشكلة؟ إلى الجيل الثالث؟ بعض القرى في المملكة جنوبا وشمالا توجد بها أقسام تربية فنية، والشرقية لا يوجد فيها قسم فنية. - بعد تخرجي في عام 1402ه عينت في ابتدائية دارين، أسندوا لي تدريس العلوم والرياضيات، لكنني طالبت بتدريس الفنية، فتحقق لي ذلك، وبعد سنتين نقلت للمدرسة «الرابعة والعشرون» بالدمام، وهي إحدى مدارس أرامكو، كل شيء كان فيها متوفرا. - نقلت للإشراف التربوي في 1417ه، ورأيت المادة مهملة، والمعلمات محبطات، كانت بعض الأمهات من باب الشفقة تقول «مسكينة معلمة تربية فنية»، الجميع كان ينظر لمعلمة الفنية على أنها أقل مستوى، وأنها ضعيفة شخصية لا تستطيع أن تقف وتدرس البنات. أنا أكره الأعمال الإدارية، فتركتها وتفرغت للتدريب، فقمت بإعداد خطة تدريبية للنهوض بالمادة، أخذت مني سنة كاملة «تأهيل معلمات المرحلة الابتدائية»، قضيت عشر سنوات أدرس المادة في التعليم، وأطلقت مسابقة لأفضل مرسم مدرسي، فتحفزت كثير من المدارس لنيل الجائزة، فأفرغ بعضها مستودعا أو فصلا أو غير ذلك، حققت ما أهدف له من تشجيع المادة ووجود مرسم في كل مدرسة. - شاركت في معارض رعاية الشباب وجمعية الثقافة والفنون، وحصلت على جوائز وشهادات تقدير كثيرة، كما حصدت جائزة القيادة المتميزة من التعليم في 1422ه، والمعلمة المتميزة المثالية، وأنا أول فنانة تشكيلية سعودية تعين رئيسة لقسم الفنون التشكيلية في فروع جمعية الثقافة والفنون في المملكة. اقتنت أعمالي دارة الملك عبدالعزيز وعدة جهات وشخصيات من سيدات ورجال الأعمال، وأفخر أنني كنت أنفذ في لجنة تطوير المناهج رسوم كتاب القراءة للصف الثاني، وكان الغلاف يحوي اسمي واسم زميلتي منى النزهة. - مر الفرع، منذ تأسيسه، بفترات كان فيها قوياً، وأخرى ضعيفا، وعندما تسلمت القسم كانت لدي آمال وخطة استطعت تنفيذ بعض منها والحمد لله. لم يكن هناك مرسم، وعملنا مرسما، وأقمنا معرضا جماعيا للشباب في القاعة التي طالبت بها، وأطلقنا عليها قاعة عبدالله الشيخ، ولا أنسى جهود مدير الجمعية آنذاك، عيد الناصر، وجهود السكرتارية، رغم مآخذي على موقع فرع الجمعية غير المناسب، حيث تعتذر كثيرات من السيدات عن الحضور بسبب أنه بعيد و»موحش»، وأول نشاط أقمته، دعوت له ثلاثين فنانا وفنانة، ورسمنا على جدران فرع الجمعية، وكثير من أولئك كانوا مواهب مبتدئة، كما حضر شباب يرسمون الجرافيك على الجدران، وشاركوا أيضا، وكانوا سعيدين جدا بمشاركتهم، كما عملت معارض جماعية لفنانين وفنانات في بعض المجمعات، إضافة إلى الدورات العديدة، ومنها أول دورة نحت على الخشب. في السنة الرابعة استقلت كي أتفرغ لمرسمي الخاص، الذي أعقد فيه دورات فنية للكبار والصغار. مذبذبة، وهي تختلف من منطقة لأخرى، هناك مناطق نشطة وأخرى غير ذلك. في الشرقية الحركة الفنية متوسطة، وكان يمكن أن تكون أفضل من ذلك، إذا تم إنشاء قاعة عروض مجهزة. هناك قاعتان تجاريتان، تخدمان، لكنهما ليستا كافيتين. أتمنى من وزارة الثقافة والإعلام إنشاء قاعة مناسبة للفنون التشكيلية في المنطقة تحت إدارة جيدة وغير متحيزة. - للأسف، حتى الآن يحتاج إلى كثير، المدرسة هي أساس التعلم، إذا دخلت الطالبة ورأت أن المادة مهملة، وبعض المدارس ليس فيها معلمات تربية فنية، بعض الموهوبات يذهبن للخياطة أو الاقتصاد. أبدا، في بعض الصحف هو مجرد خبر عابر. - أولا موهبة ثم علم، ولا بد من الإثنين، هناك فنانون اعتمدوا على الموهبة، وهذا خطأ، حتى لو كانت الموهبة عالية، فهو لا يحتاج لكثير من التعليم، لكنه بحاجة للثقافة، فمن اكتفوا بالموهبة توقف إنتاجهم مبكرا. - طبعا، أول مهارة ينبغي أن يمتلكها الفنان التشكيلي هي الملاحظة، ملاحظة الأشياء والجماليات في كل ما يرى، وهو في الطريق، المواضيع التي يراها الناس عادية، يراها هو بشكل آخر، مثلا الحجر الناس يرون أنه حصاة، وهو يراها حجرا جميلا ذا لون جميل يمتد ظله إلى جانبه وجواره نبتة، وبيكاسو يقول في إحدى عباراته: «نحن ليس لنا بد من السرقة»، يقصد أننا نلتقط الأشياء، ثم نكون لها في ذهننا صورا جديدة. - أعطاني كثيرا، الإنسان محتاج إلى مجال في الحياة يثبت فيه نفسه، ويعبر عن ذاته، كان الفن ذلك المجال بالنسبة لي، قدمني للمجتمع، وتعلمت أشياء كثيرة من خلاله، تعودت على الصبر، وعلى الاستفادة من وقتي، أعطاني شخصية معينة بين الناس. مرسمي هو مملكتي، عندما أنتهي من رسم لوحة أشعر بالرضا الذاتي، لذلك فالفن يغنيني عن أشياء كثيرة في الحياة. هناك مضايقات، لكنني لا أهتم بها، كان هناك خيار صعب بعد (المرحلة) المتوسطة هل أختار الثانوي العلمي أو معهد المعلمات، كان هدفي أن أصبح معلمة تربية فنية، درجاتي عالية وكانت تؤهلني للدخول إلى أي قسم في الجامعة، انتظام وليس انتساب، لكن حبي وهدفي أن أكون معلمة تربية فنية فوق كل شيء، حتى النساء كبار السن حينما يعرفن أنني أدرس مادة الرسم يكون تعبيرهن «هذي مسكينة» أو «مش نافعة» (تضحك).. كنت أضحك ولم يكن ذلك يزعجني لأن المجتمعات الراقية هي التي تقدر الفنون، وقد أكملت تعليمي الجامعي فيما بعد. عندنا كثير من الرسامين الذين يرسمون بشكل جيد ومتقن، وهؤلاء رسامون، الفنان منظومة كاملة، يملك قدرات ومهارات في الرسم، ولديه ثقافة تشكيلية في تاريخ الفن، وأهم شيء هو الرؤية الخاصة به. الآن أصبح إطلاق الأسماء سهل، أنا الفنان، أنا الأديب. أحب أعمال فان جوخ، هو فنان تأثيري، فنان حساس، والتحقت بدبلوم خاص عن مجمل أعماله، قدمته لنا مدرسة إنجليزية لمدة سنتين، تخصص ألوان زيتية، وحصلت على شهادة مصدقة من أحد المعاهد البريطانية، أما من الفنانين السعوديين فتعجبني أعمال عبدالله الشيخ وعبدالرحمن السليمان، ومن الفنانات المصرياتجميلة سري، وأستاذتي منيرة الموصلي، وكذلك الفنان العراقي جواد كريم. لا لم تكن تربطني به – رحمه الله – صلة قرابة، لكنه كان أستاذا، وكنت أرجع له في كثير من الأمور كونه كان مسؤولا عن الفنون التشكيلية في جمعية الثقافة والفنون، كما كان هادئا بطبعه، كان مشجعا لي، ورأيه دائما مصيب. - هي لوحة رسمتها قبل أكثر من ثلاثين عاما، وكان هناك معرض في مصر واختارتني الجمعية لكي أمثل المملكة، وأخذوا لوحتين لي عام 1409ه، كانت هي إحداهما، وبعد انتهاء المعرض حدث لي ظرف اجتماعي أبعدني عن الرسم لسنوات، فلم يستطيعوا إرجاع اللوحات لي، وبعد عشر سنوات شاهد أحدهم لوحات موقعة باسمي في مستودع الجمعية، فاتصلوا وأرسلت شقيقي ليأتي بها، عملت حفلة لعودتها، ورسمت لوحتين مشابهتين لها، هما ولداها. لا، لم أحقق ما أطمح إليه حتى الآن، واعتبر نفسي مبتدئة. أن تكون هناك مراسم ومعاهد وأن يكون لدينا متحف فن تشكيلي في المنطقة، ويكون هناك توثيق للأعمال لكي نضمن حقوقنا، وأن تكون المعارض التشكيلية في المنطقة مفتوحة دائما، يدخلها الكبار والصغار. لا يوجد أحلى من أن تجلس المرأة في المقعد الخلفي، ويأتي من يقود لها السيارة وهي مرتاحة وتكون ملكة.. لكن عندما لا أستطيع إحضار سائق خاص، ولدي سيارة، وفي ظروف قاهرة، مع عدم وجود من يستطيع أخذي إلى مشوار مهم، أتمنى حينها أن أقود السيارة وأذهب إلى مشواري بنفسي.. أتمنى أن يكون هناك تنظيم معين ينظم ذلك.