الصدى الواسع لوفاة الزعيم نيلسون مانديلا، في العالم وفي ساحتنا المحلية، ليس مفاجئاً فقد كانت شهرة مانديلا وسيرة كفاحه ورمزيته بأكثر من معنى ذائعة خصوصاً في الخمس عشرة سنة الأخيرة، بعد أن زهد في السلطة السياسية التي بوأته زعامة أول حكومة أجهزت تماماً على إرث الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، فعاش يحكي كفاحه الوطني والإنساني للعالم ويعلن مواقفه ضد الظلم والعدوان كلما اقتضى الأمر وفي أي مكان، دون أن يجرؤ أحد على شراء صمته أو أن يقبل لمرة واحدة أن يغش ضميره. هكذا كسب الرجل سمعة وذيوعاً لا أنقى ولا أجمل منهما في عصرنا الحديث، لكن من الحق أن نقول إنه لم يكن الوحيد بنقائه الأخلاقي وتضحياته الوطنية والإنسانية، وليس أكثر تضحية من ألوف أو عشرات الألوف من أبناء جلدته تم قتلهم أو سجنهم أو تعذيبهم أو امتهانهم… بأكثر مما نال مانديلا. بل قد نقول إن بعض البيض من مواطني جنوب إفريقيا الذين وقفوا في صف المناصرة للسود والإدانة للتمييز العنصري قد فاقوا مانديلا في الدلالة على التضحية من أجل العدالة بين الناس بغض النظر عن انتماءاتهم وألوانهم وعقائدهم وأفكارهم… والبرهنة على تحمل تبعات مواقفهم وقد كانوا ينتمون إلى الأحرار المستبدين، ومن أبرزهم محامي مانديلا «برام فنشير» الذي حُكم عليه بالسجن مدى الحياة ولم يخرج من السجن إلا ليموت بسبب مرضه بالسرطان. وإلى ذلك عديد من الأسماء المبثوثة في العالم ونحن هنا نخص زمننا المعاصر وليس الأزمنة القديمة. وهذا يطرح سؤالاً عن السر الذي صنع من مانديلا أيقونة بطولة إنسانية، والاختلاف الذي أفرده لوحده ورفعه على غيره؟ إن جانباً من رمزية مانديلا هو من صنيع الحلم الإنساني تجاه البطولة، فهو حلم ينحاز للبسيط والفقير. ويضاعف اللون هنا تلك البطولة، فليس منتظراً البتة أن يصل أبيض إلى ما وصل إليه مانديلا من رمزية إنسانية، لأن الذاكرة المثخنة عالمياً بجراح الاستعمار من البيض وبصور التوحش الرأسمالي أو بالبراجماتية التي تكبِّل ما يفيض به الكائن من نوازع الخير تجاه المنفعة المكرِّسة للأنانية، لن تسمح لأبيض بهالة المجد التي يصنعها خيال البسطاء وتوقهم إلى العدل والحرية. ولقد كان لزهد مانديلا في السلطة عامل تحريض لذلك الخيال الإنساني في إكسابه المجد، فلو كان رجل سلطة سياسية لكان في موقع يتحاشاه الحلم بحثاً عن إنسان من الشعب بلا سلاح! لكن معاني أخرى تتصل بمانديلا في التجاوب مع هذا الحلم، وأهمها غلبة السلمية على كفاحه، فالعنف في كل أحواله ممارسة تثير الشعور بالألم، وتسبب النفور، وهو قد يصنع بطولة بتبريرات شتى لكنه حتماً يخفق في إدهاش الحلم الإنساني واستثارة ما يكمن فيه من نوازع ذات عموم. ويضاف إلى هذه السلمية امتياز مانديلا الثقافي والخطابي، فقد كان يحسن التفكير والتقدير كما كان يحسن التعبير كتابة وخطابة ويحسن الدبلوماسية. وبهاتين النقطتين تحديداً برز في الإعلام العالمي الذي كان يتابعه ويستنطقه ويحكيه في تعاطف واضح لأسباب مختلفة تعود إلى تملق الجماهير أحياناً أو إلى مناخ الوعي الحديث بالإنساني والنضالي وتصاعد الوجهة النقدية للمركزية الغربية أحياناً أخرى. أما الأهم من ذلك كله فمعنى التضحية والإيثار، فلم يكن مانديلا يعمل لذاته!