المجتمع يحوِّل الإنسان من مادة خام إلى كائن اجتماعي ينطق ويعرف الممنوع والمباح في دولة وثقافة. وصل إلى هذا علماء الاجتماع منذ أيام ابن خلدون، فأدركوا أن المجتمع يمكِّن الإنسان من النطق والإنسانية هي بكلمتين النطق واستعمال اليد لدخول وبناء الحضارة. وفي هذا المنعرج ناقش عديد من الفلاسفة معنى اللغة للإنسان. كذلك يكوِّن المجتمع الإنسان ثقافياً، فيوحي إليه من حيث لا يشعر أن البطل هو الذي يأخذ حقه بذراعه وأن (السبع) هو من ضرب وأخاف العباد وأوجد لنفسه هالة وأحيط بهيبة من الأتباع. وإذا جاء الطفل إلى أبيه باكياً أن أحداً ضربه في الحارة، قال له ولماذا لم تضربه؟ فهذه هي مسلمات التربية في مجتمعنا وعليها ننشأ وكل سلوكنا اللاحق مبني على هذه المسلمات الثقيلة التي لا تقبل النقاش أو الزحزحة. إذا مدَّ أحدهم يده إلينا بالضرب رددنا له الصاع صاعين والكف كفين وجعلنا وجهه (خريطة) عظة وعبرة للآخرين. وكما قال الشاعر العربي قديما: (ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ومن لا يظلم الناس يُظلم)؛ فهذه مفاهيم مغروسة بعمق وعناية في تربيتنا الثقافية، وهي تشكِّل سلوكنا اليومي وتحكم تصرفاتنا، ونعتبر أن هذا هو الطبيعي ولا غبار عليه، وإنه أمر مخجل وعار ما بعده عار، أن يهجم عليك أحد وتقف مكتوف الأيدي، دون الرد عليه وبأشد والنزول إليه في حلبة الوغى وتهشيم أضلاعه مع أنه لم يهشم أضلاعنا. أذكر من دمشق السيدة حنان اللحام وكانت مسؤولة عن مدرسة أطفال ومهتمة جداً بالثقافة السلامية وتربية الأطفال عليها. سألتها: هل استطعتم أن توجدوا أنموذجاً للطفل السلامي؟ كان جوابها: ولا لطفل واحد. وعندما ذهب جودت سعيد الداعية السلامي إلى مؤتمر في بلد عربي أظنه السودان كان السؤال الأول الذي وجهه إليه مفكر إسلامي: أأنت الذي يقال عنك إنه إذا ضربك أحد لم تدافع عن نفسك؟ قال نعم ولست الأول، وهو ما فعله محمد بن عبد الله -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم-، عندما كان يأمر أتباعه ألاَّ يدافعوا عن أنفسهم وكان يمر عليهم وهم يعذبون فلا يزيد على قوله: صبرا آل ياسر إن موعدكم الجنة. كانت هذه التعليمات للإنسان العربي البدوي في ذلك الوقت وهو المعتاد على القتال والحمية أمر في غاية الصعوبة، ولكن الإسلام لم يربِّ أتباعه على هذا المنهج دون مبرر قوي، وهو ما نحن بصدد تحليله من الناحية النفسية ويحتاج إلى تفكيك خاص حتى يستوعب ما معنى هذه التربية ألا يرد الأذى بالأذى بل السيئة بالحسنة. بالطبع إن استيعاب هذا فضلا عن تطبيقه يُعد من أشق دروس التربية قاطبة.