لكل منا أغنيته العميقة، الضاربة في جوفه بجذورها، منا من يصقلها كل حين، فتلمع أوراقها بين يديه، تضيء له في العتمة لو غفلت عنه الكهرباء، تلمع وتدله وتحنو على طريقه، تلمع في حنينه وفي تذكره، في فرحه وفي أساه… لا تتخلى عنه ولا تتركه وحيدا أبدا…تسمعها أحيانا آتية مهدك الصغير بصوت أم ساهية في الحنان، وأحيانا يهمهم بها عامل البناء المغترب الذي جاء به الأب ليسد نافذة أو يرفع سور البيت عن عيون فتية الجيران الشقية.. وكثيرا ما تسمع دندنتها كلما لاح لك وجه الحب، وحتما سيشك قلبك لحنها إذا انبرى له الفقد وبرى قصبة خبأها في داخلك الغائبون… تلك أغنيتك … تتبعك من بعيد، أينما ذهبت، لا تكل من مداعبة قدميك بفرائها، حتى لو نهرتها ورميتها بحجر، تعودك إذا قطبت حاجبيك أو أطلقت أقل نأمة وكأنك تدعوها باسمها المحبب، لو أنها من خوف، حزن، فرح … ستقفز إلى حضنك وتمرغ رأسها في صدرك وتسلمك لحنها وكلماتها بطواعية أليفة… ماذا لو منعتَ عنها، وحبستْ في قلعة محصنة بحراس شداد غلاظ، يعزلونها ويعتبرونها وحشا كاسرا، أو مرضا لا شفاء منه، سيفتك وباؤه بالناس أجمعين. كيف لك ألا تستدرجها في غفلة من السجانين، آخر الليل، كعشيقة تتخفى بعباءة الظلام، كيف لطفلك أن يغفو في حديقة النعاس محاطا برائحة الورد ومتخيلا الفراشات وألوانها.. أعرف أنك تبتسم الآن، بأن القلعة سقطت وتهدمت، أن الحراس هم أول من سمعهم الناس ينهمون بها حين يدللون زوجاتهم وبناتهم، أن الموسيقى تقفز من بيت إلى بيت، وكل من خافها يوما، ها هو يضعها تحت عباءته ويخص بها أهله، خوفا من نفادها في الأسواق… سيضحك أطفالنا كثيرا، بدهشة وتعجب، حين نحكي لهم عنها، عن أغنية كانت ثمرة محرمة يقطفها الأشقياء، ويعاقبون أمام الملأ كل مرة، أغنية ارتكبها خطاؤون بنزق الصبيان، مكررين خطيئتهم، متلذذين بطعمها الأول…. أيتها الأغنية يا رفيقة الروح وسكناها، أينك مني، اقتربي قليلا، ناوليني يدك، خذيني دفعة واحدة لأصعد غيمك ومطري….. أيتها الأغنية يا بيرقا يلين قلوب الأعداء، يؤلِّف بين الخصوم ويمسح على قلوبهم بالحب…. أيتها الأغنية يا ماحية الحروب من الكون، دعيني في سلمك مرفوعا تحت النجوم…. ها هي أغنيتي الحزينة التي انقطعت في منتصفها، ولم أستطع تذكر بقية كلماتها وضل اللحن يعذبني… الحبل الذي يربط الغائبين ويسحبني لو غفلوا. أغنية أنتظرها الليل كله؛ تركت لها الباب مواربا لتعود.