كُتب عن الواقع والتوقع كثير، وأدلج بعلمه علماء أفاضل كبار، وأسموه بفقه الواقع والتوقع، وما دام كلٌّ أسرج خيله، وأدلى بدلوه، طاب لي أن أستأذنكم في الولوج ولو قليلاً، بمنزلة الذي يقف على ضفاف الساحل، وذلك لغايةً في نفسي، بالإضافة إلى أنني أشعر بالارتياح لهذا المفهوم، أو بهذا العلم الذي يميل للفلسفة وعلم النفس أكثر من ميله أن يكون علماً منفرداً. أعتقد أن توازن التوقع الذي هو صادر عن الإنسان مع طبيعة الواقع وحالته الحقيقية بحد ذاته علاج لكثير من الأمراض التي يعاني منها كثير من الناس في عصرنا الحاضر، مع كثرة وتنوع العلاقات العامة، وتفرع احتياجات الإنسان، لا سيما التي تتسبب في الضغوط النفسية. لن أتعمق كثيراً في هذا البحر العميق، ولكن الذي أردت أن أصل إليه هو معرفة الواقع بشكل جيد، ووضع توقع إن لم يكن أقل من الواقع يكون على الأكثر مساوياً له حتى لا يكون هناك انهيار في المشروع الذي وقع بين التوقع والواقع، بمعنى ألا نرفع سقف التوقعات كثيراً، بحيث تكون أكبر من الواقع الحقيقي، فتأتي هنا الصدمة. عندما يتكلم صديق عن مكان ما، أو شخص ما، ويمتدحه تتبلور صور في مخيلة السامع بشكل أكبر من الحجم الحقيقي، وبزيارة المكان، أو لقاء هذا الشخص، تنكشف الغشاوة، وتظهر الحقيقة بشكلها الطبيعي والعادي، سوف تكون ردة الفعل عكسية، وربما انعكست المحبة إلى كره. وعندما تضع ثقتك الكاملة في شخص وتندفع في محبته بقوة، ويحدث ظرف يجعله يتخلى عنك، وهذا لم تكن تتوقعه منه، وهو التوقع، والحدث الذي حدث هو الواقع، ماذا سيكون حالك؟. شاعر الصحراء الأمير محمد الأحمد السديري رحمه الله تطرق لهذا المفهوم، إن جاز التعبير، وقال في قصيده له عذبة مشهورة منها هذا البيت: «لا خاب ظنك بالرفيق الموالي/ مالك مشاريهٍ على نايد الناس»، فهو يقول عندما تضع توقعك (ظنك) بالصاحب والصديق القريب و(يخيب) بمواجهة الواقع، هنا تحدث الصدمة التي لم تكن حسب التوقع، ليجيب بالشطر المكمل للبيت بأنك لا تنتظر (وليس لك حق أن تطالب) البعيد من الناس، ما دام القريب لم يكن على توقعك (ظنك). غالباً ما نسمع عبارات دارجة في مجالسنا الآن، مثل: «والله يا فلان ما كنت أتوقعه منك»، أو «فلان ما صار على ظني فيه»، وهذه العبارات صادرة عن صدمة نفسية، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، وتتحكم بحجم هذه الصدمة النوعية والمناسبة. لا أدعو للتشاؤم والنظرة التشاؤمية أو الظن السيئ، ولكن أدعو لعدم إعطاء الموصوف أكبر من حجمه (أي التوقع الذي نتوقعه منه) مهما بلغ من محبة وارتياح في دواخلنا. لعل الأمر يختلف من شخص لآخر، أو من مكان لآخر.