كان هناك رجل مهيب ينتصب في صدر المجلس كقمة جبل في "المضيف"، وهو بيت الشعر الممتد عشرات الأمتار خلف جملة من المعاميل، وكانت تعكس حمرة توقد نار السمر في أجواء شديدة البرودة يعززها دفق المطر الذي كان يهطل بغزارة، بينما كان "أبو زيد" ينتظر جفاف "شماغه" المبلل بالمطر قبل وصول "ضيوف مهمين" كان يترقب قدومهم للعشاء.. فجأة تقتحم المكان امرأة لا يعرفها.. انكشف غطاؤها عدا "شيلة" تفر من بعض شقوقها بضع خصلات شعرها الأشيب، تدفع بجسدها حبواً وهي تصيح "تكفى يا بو زيد".. يرمي عليها بشته.. يحاول أن يلتقط بين شهيق اليأس والرجاء حاجتها: - "وش تبين مني يامره؟". يبلغه أحد لخويا أنها "أم فلان" الذي سينفذ به حكم القصاص يوم غد الجمعة بعد أن فشلت كل وساطات الشفاعة، وإغراءات المال من شخصيات وتجار وشيوخ قبائل لإقناع أصحاب الدم بالتنازل. إذن لا وقت للانتظار يومئ لسائقه ويلتفت إلى أبنائه والحضور.. عشوا ضيوفكم وأنا أبوكم ولا "تحروني".. محمد الأحمد السديري «مزرعة السديري» احتضنت بداية 13 غزالاً نادراً تحولت إلى آلاف في غضون سنوات وانطلق عبر الطريق الصحراوي يسابق "حد سيف القصاص" والساعات القليلة المتبقية عندما وصل بريدة متأخراً؛ ليجري مكالمة هاتفية بالملك فيصل - يرحمهما الله - يطلبه تأجيل حكم القصاص، ثم يواصل طريقه للمهمة الأكثر صعوبة بحثاً عن صاحب الدم الذي لم تجد معه كل جهود الشفعة، والذي وصل إلى مكانه في اليوم التالي واختفى مع سائقه قرب مورد ماء في الصحراء النائية قيل انه يتردد عليه مرة إلى مرتين في الأسبوع للتزود بالماء بعد أن أخذ أوصافه كاملة، لحظة ما شاهده قبيل صلاة المغرب توجه إليه.. بادره بالسلام أعقبه بسؤال "أنت فلان؟". وبعد ما تأكد من شخصيته أماط عن وجهه اللثام عندها اهتز الرجل وهو يتفحص ملامحه، ويتأكد من خلالها انه "محمد الأحمد السديري" الذي بادره هو الآخر بعد ما "خمّن" سبب مجيئه قبل أن يتكلم: (عويذة الله من شرك يالسديري..) لا تحملني أمر ما أستطيعه.. يرد عليه (أنا سايق عليك وجه الله ثم وجهي..) وبعد ساعات من الوقوف ينتهي الفصل المثير بالتنازل عن القصاص، والتوجه من نفس المكان لمحكمة المدينة الذي استدعي قاضيها ليلاً لإثبات التنازل.. تلك واحدة من عشرات قصص عتقاء "محمد الأحمد السديري" من القصاص، الذي ما كان يرد إلاّ نادراً ليس خوفاً ولا طمعاً بماله، وإنما حباً وتقديراً لشخصه. منزل السديري في الخفيات قبل تهدمه عام 1415ه ساحة القصاص جاه «أبو زيد» نجح في العفو عن العشرات في ساحة القصاص يذكر لي ابنه "العميد تركي السديري" في مقابلة سابقة قصة مماثله فشلت معها كل وساطات الشفاعة، حتى السديري نفسه بداية الأمر؛ لكنه لم ييأس حتى آخر لحظة، وفي الوقت الذي أعطى صاحب الدم إشارته للسياف المتأهب في ساحة القصاص لتنفيذ الحكم، التفت السديري إلى صاحب الدم، وخاطبه بلهجة مختلفة وغير متوقعه اهتزت منها أركان الساحة: (حسبي الله عليك هالحين اسوق عليك وجهي ومالي، وأقدم لك عيالي تقتص منهم بدلاً منه وترفض الله لا يوفقك دنيا ولا آخره).. كلمة كان لها وقع حد السيف نفسه عند ما رفع الرجل يده وقدم إلى الجاني وفك العصابة المربوطة على عينيه، ثم تناول مقصاً قص به بعض خصلات شعره وطيرها في الهواء قائلاً: أعتقتك لله، ثم وجه محمد السديري.. وسط تكبير ودهشة الحضور. مزرعة "الخفيات" قصص عتقاء محمد السديري تماثلها قصة عتق أخرى مختلفة لا تقل أهمية طالت إنقاذ الغزال "الأكحل" أو الغزال العربي "الريم" و"الادمي" الذي لا يوجد إلاّ في الجزيرة؛ فكانت أرض "الخفيات" أول من احتضن (13) غزالاً من هذه الفصائل، وكانت النواة الأولى لآلآف الغزلان الموجودة حالياً في المزرعة، وآلاف أخرى وزعت وتوزع على محميات المملكة.. جاءت فكرة هذا المشروع من رجل يعتقد انه أول من تبنى مشروع الحفاظ على الحياة الفطرية استشعاراً منه - رحمه الله - بأهمية الحفاظ عليها بعد ظهور السيارة وبنادق الرش الحديثة، وتعرض طرائد الجزيرة العربية بما فيها الغزال العربي إلى عملية إبادة كاملة، حيث حاول "محمد السديري" في لحظة يأس إبان ما كان رئيساً لشركة التابلين التي يعمل بها موظفون من قارات مختلفة نقل عينات من الغزال العربي إلى تلك القارات، التي تخضع ثرواتها الفطرية لنظام حماية آمن، وذلك عند ما قام بترحيل أجوازاً منها جواً إلى قارات أفريقيا وأوربا وشرق آسيا، مع بعض موظفي الشركة والطلب منهم أن تطلق في المحميات الطبيعية في بلدانهم.. واستمر هكذا حتى جاءت فكرة هذه المزرعة منذ ما يقارب الخمسين عاماً، حيث كانت بدايتها (13) غزالاً كانت النواة الحقيقية لآلاف تضخ لمحميات المملكة، وكان أبناء محمد السديري قد تنازلوا عن مزرعة الغزلان تلك التي تزيد مساحتها على ثمانية ملايين متر مربع تنفيذاً لرغبة والدهم للهيئة الوطنية لحماية الحياة الفطرية عام 1410ه، باسم مركز الامير محمد السديري لأبحاث الغزال، وكلفت حينها من الرياض لتغطية الحدث عندما أكد لي ابنه العميد تركي أن عدد الغزلان وقتها تزيد على 700 غزال وعدها الوحيدة ربما في العالم من حيث نوعية الغزلان. الحميدي يشرح لأحد الزوار ذكريات السديري أمام مكتبته الخاصة شاعر الحكمة والبطولة "محمد السديري" الرجل الرمز والأديب، ورجل الدولة الذي تولى العديد من المسؤوليات أميراً في عدد من المناطق، وقائداً لأحدى فرق الجهاد في فلسطين، ومفاوضاً محنكاً في بعض القضايا المصيرية للبلاد، هو أيضاً صاحب الملاحم الشعرية، الذي توافق أقواله أفعاله دائماً، وتعكس شخصيته الحقيقية خلاف أغلب الشعراء "الذين يقولون ما لا يفعلون"، فعند ما قال في ملحمته المعروفة: لا خاب ظنى بالرفيق الموالي مالي مشاريهٍ على نايد الناس لعل قصر ما يجي له اظلالى ينهد من عالي مبانيه للساس لا صار ما هو مدهلٍ للرجالي وملجأ لمن هو يشكى الظيم والباس بحسناك يا منشى حقوق الخيالى يا خالق أجناس و يا مفنى أجناس تجعل مقره دارس العهد بالي صحصاح دوٍ دارسٍ ما به أو ناس البوم في تالي هدامه ايلالي جزاك يا وكر الخنا وكر الأدناس سلطان شفت الموت مرة ومرة والثالثة يا أمير كشّر بنابه كان هو الرفيق الذي لا يخيب الظن، والقصر الحصين الذي يستظل به كل محتاج أو ملهوف؛ حتى صارت "الخفيات" في هذه الفيافي المتوارية مقصداً وملتقى، وصفه "الحميدي بن شديد الوهيبي" أحد رجاله الذين لا يزالون يعملون مع أبنائه وهو يستعيد ذكرى لوحات السيارات المتوقفة عند المضيف؛ شبهه بمنفذ حدودي تختلط فيه كل الأطياف من كل الجنسيات العربية، أصحاب الحاجات، والشعراء والأدباء، وسفراء الدول والدبلوماسيون وشيوخ القبائل، مضيفا أن مركز شري العامر الآن بالسكان والخدمات كان وقتها عبارة عن مارد ماء للبادية لا يوجد به إلاّ ثلاثة إلى أربعة منازل، حيث طلب لهم السديري بداية الأمر مستوصف كان يدار من خلال خيمة وبجهوده - رحمه الله - انشئ (مخطط السديري) تسكنه حالياً مئات الأسر وتكتمل فيه أغلب الخدمات. كان -رحمه الله- مثيراً ومختلفاً في كل مراحل حياته وكل شيء حتى قبيل ساعات احتضاره على فراش المرض عندما قال مخاطباً صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز -حفظه الله: سلطان شفت الموت مرة ومره والثالثة يا أمير كشّر بنابه ما بيه لكنه بلاني بشره زودٍ على خيله يجمع أركابه لو هو ظهرلي في صحاصيح بره نذرٍ علي إني لبيّن صوابه كان موته عام 1399ه فجيعة اهتزت له أركان الجزيرة عند محبيه وعشاق فنه الراقي؛ لينقل من الرياض إلى "الخفيات" تنفيذاً لوصيته، ويدفن بالمقبرة التي خط بها مكان قبره، وحدد أمكنة قبور أبنائه إلى جواره، بعد أن حرص قبل وفاته على تأهيل المقبرة - حديثة الإنشاء - بتكليف الخويا والمعارف للمرور على أبناء البادية المجاورين والطلب منهم دفن أي ميت بهذه المقبرة. العميد تركي السديري مع بعض الزوار في الخفيات عام 1409ه