أنا من قراء السير الذاتية، لأنني على يقين أن حكاية كل إنسان هي مقطوعة درامية فاخرة، يبقى كيف يسردها لنا المؤلف وكيف يختار أبطالها وشخوصها، حيث تتكامل داخل أجزائها شروط الحبكة الدرامية والأبعاد الزمانية - المكانية التي تحركت داخلهما ما بين نقطتين غامضتين. والسيرة الذاتية الضخمة للمفكر المصري الراحل عبدالوهاب المسيري (ما يقارب 800 صفحة) رغم كثافتها إلا أنها تستحق أن تمنحها وعيك.. ووقتك وجزءا مبجلا من مكتبتك. فمن خلال تفاصيلها يظهر لنا كواحد من جيل المحاربين القدامي، أحفاد مشروع النهضة العربي من ناحية، وأبناء جيل النضال والشعارات الوطنية الكبرى حيث بوصلة الأعداء والأصدقاء واضحة ولم تغبش بعد. حاول المسيري أن ينظم الكثافة المعلوماتية الهائلة في السيرة عبر أسلوب (النماذج التحليلية) وهو أسلوب نقدي كان يوظفه طوال حياته الأكاديمية حتى يبتعد عن السرد الوصفي السطحي الراصد الذي يغلب على الدراسات الأكاديمية في العالم العربي، بل كان يتناول مراحل حياته عبر أبرز المواضيع والمشاريع التي انخرط بها. ولعل جزءا من هذه الكثافة يعود للمعراج الفكري والروحي الذي تصعده المسيري منذ بواكير حياته، التي بدأها كابن لطبقة برجوازية ريفية في دمنهور صاحب ميول إخوانية، ومن ثم يسافر للأسكندرية للجامعة فينضم لليسار المصري باستبسال حركي، هذا قبل أن يسافر للولايات المتحدة كطالب علم وينفتح على مساحات شاسعة من العلوم والمعارف، ليعود في النهاية إلى معتقده الأم في ظل معراج روحي يصفه المسيري بالعقلانية. كثيرة هي القضايا المستوقفة التي يدرجها المسيري في كتابه كحكايته مع الذئاب الثلاثة والذين تربصوا به بعد عودته من اغترابه الطويل، وهم (ذئب الشهرة- ذئب الثروة – الذئب الهيجلي) ويقصد بالذئب الهيجلي هو النهم البشري الكبير للمعرفة، بحيث يُغرق الكم الهائل من المعلومات صاحبه ويعجزه عن أن يدرجها في منظومة فكرية تتسم أجزاؤها بقدر من الترابط والاتساق الداخلي، وكيفية مقارعته لتلك الذئاب لينجو بنفسه كباحث مستقل. كما يرصد في سيرته صدامه المستمر مع المؤسسات البيروقراطية والتقليدية، ورفضه للنزعات الإمبريالية الاستهلاكية التي تستنزف ثروات الشعوب المغلوبة. لكن يظل تصديه لكتابة الموسوعة الصهيونية، هو أبرز محور ارتكاز في حياته، وذلك عندما منح جل عمره لكتابة الموسوعة الصهيونية وتفكيكها كفكر وكمصطلحات، وإبراز علاقتها مع الإمبريالية العالمية، وجهد المسيري في موسوعته تقوم به وتموله عادة مؤسسات علمية كبرى، وضمن فرق أكاديمية تتوازع العمل الكثيف بينها، ولكن المسيري وبحس نضالي مبهر، تصدى لهذا الجهاد النبيل وحيدا بإصرار سيحفظه له التاريخ. البقية من هذا أن د. المسيري قد كان ضمن هيئة التدريس في جامعة الملك سعود في فترة الثمانينيات (1983-1988)، وما برح يسرد ذكريات ايجابية ورائعة عن المكان وأهله متجاوزا البعض ممن يميلون إلى نشر الغسيل المتسخ بعد مغادرتهم. وبعد رحلةٍ كثيفة المعلومات تمتد على 800 صفحة يستشهد المسيري في فصوله الأخيرة بمقولة شاعر روماني (الفن طويل .. ولكن الحياة قصيرة)، وهي فعلا كذلك. لمراسلة الكاتب: [email protected]