في الوقت الذي تتزايد فيه آراء العديد من الاقتصاديين في وسائل الإعلام مؤخراً عن أهمية اتخاذ إجراءات لترشيد استهلاك الطاقة محلياً بعد ارتفاع استهلاكنا الداخلي من البترول إلى نحو ثلث إنتاجنا منه، وتسارع وتيرة تراجع أسعار النفط خلال الأشهر الأربعة الماضية، لعلها المرة الأولى - حسب علمي - التي يُلمِّح فيها مسؤول حكومي رفيع المستوى إلى احتمالية وجود حاجة لإعادة النظر في برنامج دعم السلع والخدمات، وتزداد أهمية إشارة كهذه حينما تصدر عن وزير المالية؛ المسؤول عن إعداد وإدارة الميزانية العامة للدولة، وتنفيذ السياسة المالية الحكومية، واعتماد أوامر الصرف ونفقات مشاريع التنمية التي بلغت أرقاما فلكية في الأعوام الأخيرة في المملكة. خيارا الترشيد : وبطبيعة الحال فإن الحديث عن الترشيد لا يعني بالضرورة أن يتم عبر زيادة أسعار المحروقات أو تخفيض مقدار الدعم الذي تقدمه الدولة للإبقاء على أسعار السلع والخدمات الرئيسية عند مستويات مقبولة وفي متناول ذوي الدخل المحدود، ذلك أن هناك آليتين للترشيد هما : 1- ترشيد جانب العرض وهو يعتمد على زيادة كفاءة الطاقة والموارد الأخرى من خلال إجراءات متعددة؛ منها تحسين مواصفات المنتجات لتصبح أقل استهلاكاً للطاقة، والتشجيع على توزيع الأحمال لتجنب تركُّز الاستهلاك في ساعات الذروة باستخدام العدادات الذكية. 2- ترشيد جانب الطلب وهو يعتمد على خفض الاستهلاك عبر تخفيض الدعم الحكومي المؤدي لزيادة السعر تدريجياً وهذا ما يُعرف بالترشيد من خلال التسعير. المؤشر والدلالة: والملفت هنا هو أن حديث وزير المالية عن الدعم لم يؤكد كما لم ينف إمكانية تخفيض الدعم بل اكتفى معاليه بالإشارة إلى وجود سلع وخدمات قد لا يكون من المفيد الاستمرار في دعمها، وهي اشارة سريعة وعابرة، وجاءت رداً على سؤال صحفي، فضلا عن كونها خلت من التفاصيل؛ إلا أنها قد تنطوي - في تقديري - على مؤشر له دلالته على احتمال حدوث تغيير طفيف على السياسة المالية السعودية الخاصة بالدعم الذي ظل على مدى عقود يُعتبَر أحد التابوهات التي لا يمكن الحديث عن إمكانية تخفيفه، والملفت هنا هو أن حديث الوزير جاء خلال حضوره مؤخرا قمة مجموعة العشرين، واجتماعه في مدينة بريزبن الاسترالية مع الوفد الإعلامي السعودي؛ بحضور وزير الثقافة والإعلام المكلف. تساؤلات مهمة : ولو أردنا سبر أغوار التصريح المقتضب لوزير المالية بشأن الدعم، واحتمالية التخفيف منه، فإن ثمة تساؤلات عديدة مهمة يتعين علينا أولا محاولة الإجابة عنها؛ في مقدمتها: كم تبلغ قيمة الدعم الذي تدفعه الحكومة سنويا؟ وما هي أبرز السلع والخدمات التي تستأثر بالنسبة الأكبر من ذلك الدعم؟ وما هي أفضل آليات تخفيفه؟ ومتى يمكن البدء بذلك؟ وما هي الانعكاسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتوجّه من هذا النوع؟ خصوصا ونحن بلد اعتاد فيه المواطنيون بل وحتى المقيمون الحصول على العديد من السلع والخدمات بأسعار تقل كثيرا عن تكلفتها الفعلية؟ تقديرات ضخمة : وقبل الإجابة عن الأسئلة السابقة لا بد أن أشير إلى أنه لا يُعرَف على وجه التحديد مقدار الدعم الكلي الذي تتحمله الحكومة السعودية لضمان توفير حياة كريمة للمواطنين حيث لم يسبق لها الإعلان عن ذلك؛ الأمر الذي يفتح الباب للتخمين، وإن كانت أقرب التقديرات تشير إلى أن مقدار الدعم يتراوح بين 300 إلى 350 مليار سنويا وبواقع حوالي 12500 ريال للفرد سنوياَ، ولتقدير ضخامة هذا المبلغ تكفي الإشارة إلى أنه يمثل نحو 38 % من ميزانية البلاد للعام الحالي والبالغة 855 مليار ريال، ليس ذلك وحسب بل إن حصة الوافدين المقيمين في المملكة من الدعم الحكومي تقدر بنحو 100 مليار ريال في العام. دعم المشتقات: ومن المؤكد فإن المشتقات النفطية تأتي على رأس قائمة السلع الإستراتيجية المدعومة حكوميا وهي تشمل البنزين والديزل والذي يعتبر بدوره مصدر الطاقة الأول في إنتاج الكهرباء وتحلية المياه وهو ما يضعهما على قدم المساواة مع أهم السلع المدعومة كالوقود، وتقدر مصادر مستقلة مقدار دعم قطاع البترول فقط بنحو 170 مليار ريال في العام الواحد وبنسبة تبلغ حوالي 20 % من الميزانية وذلك على الرغم من أن مبالغ الدعم تأتي عادة من خارج بنود الميزانية. ما تقدم لا يشمل قيمة دعم الغاز الذي يبلغ سعره محليا حوالي 75 سنتا امريكيا لكل مليون وحدة حرارية قياسية في حين يباع عالميا بسعر يتجاوز الثلاثة دولارات ونصف الدولار. سلع إستراتيجية : الأرقام الضخمة السابقة ربما تجيب عن التساؤل بشأن السلع والخدمات التي ينبغي أن تشكل باكورة ترشيد الدعم الحكومي لاسيما وأن البديل لاستبعاد البدء بتخفيض دعمها قد يكون هو رفع الدعم عن بعض السلع الغذائية الإستراتيجية مثل الدقيق والرز واللحوم وزيوت الطهي وحليب الأطفال وباقي مشتقات الألبان، والسكر وغيرها، وهو ما يتلامس بشكل مباشر مع مستوى معيشة السكان لا سيما المواطنين من ذوي الدخل المنخفض الأمر الذي لا يجعله خيارا جيدا عندما يتعلق الأمر بالترشيد. توقيت الدعم : وبالانتقال لإجابة السؤال التالي وهو المتعلق بالتوقيت، فمن المعروف أن اتخاذ قرارت مهمة ومؤثرة على الأوضاع المعيشية للمواطنين لا بد أن يسبقها عادة دراسات وأبحاث تساعد على معرفة تأثيرها المالي والاقتصادي والاجتماعي، لذلك فإن من غير المتوقع إقدام الحكومة على أي خطوات فعلية لترشيد الدعم - في حال قررت المضي قدما في هذا التوجه – وذلك قبل منتصف العام القادم 2015، وهو التاريخ الذي قد تتضح فيه المستويات السعرية التي سيتوقف عندها سعر النفط المتراجع منذ أكثر من أربعة أشهر وحتى الآن. دعم غير مباشر: وأختم بجزئيتين أراهما مهمتين في هذا الصدد، أولهما هو أن الدعم الحكومي لا يقتصر على السلع والخدمات الرئيسية المشار إليها آنفا بل إن هناك دعما غير مباشر يتمثل أولاً في انعدام الضرائب على دخل المواطنين، وثانياً في انخفاض الرسوم الجمركية على معظم الواردات السلعية مقارنة بالرسوم المفروضة على مثيلاتها في الكثير من دول العالم، هذا بالإضافة إلى تدني اسعار المنتجات البتروكيماوية، والصناعات المرتكزة على الإسمنت، والعديد من المعادن والمواد اللقيمة والتي تقل قيمتها بشكل ملحوظ عن أسعارها في الأسواق الدولية. ترشيد الإنفاق: أما في حالة عدم المضي قدما في خيار ترشيد الدعم، فإن ذلك سيستلزم بالضرورة - إن عاجلا أو آجلا - ترشيد الإنفاق التوسعي للحكومة ما قد يؤثر في استمرار زخم مشاريع البنية الأساسية وذلك لضمان استمرار دعم السلع والخدمات لأن تراجع سعر البترول عن نقطة التعادل بين النفقات والإيرادات في الميزانية قد يؤدي لعجز مالي يتطلب السحب من الاحتياطيات وهو خيار يمكن تجنبه بشيء من الترشيد. تخفيف الآثار: أما الجزئية الثانية والأخيرة فتدور حول كيفية تخفيض الدعم، والشرائح الاجتماعية التي يجب أن يشملها، وفي تقديري فإن الترشيد لا بد وأن يكون متدرجاً، وشاملا لجميع الفئات الاجتماعية ؛ أفرادا ومؤسسات، مع تفاوت نسبة التخفيض من شريحة لأخرى، كما يستحسن أن يكون مصحوباَ بإجراءات أخرى للتخفيف من آثاره على معدل التضخم مثل إطلاق حزمة من المبادرات لمساعدة ذوي الدخل المحدود والشرائح الأضعف في المجتمع مثل الأرامل والمطلقات والأيتام والمسنين والمعاقين ونحوهم وذلك بتوجيه نسبة من الوفر الذي سيتحقق من الترشيد لصالح دعم هذه الفئات. *كاتب اقتصادي