على الرغم من عدم اكتمال دراسة توحيد أسعار الوقود التي تجريها دول مجلس التعاون الخليجي، إلا أن معظم الآراء حولها محليا جاءت حتى الآن سلبية بل ومحذرة بشدة من تأثير مثل هذا التوجه لاعتبارات عديدة لا تتوقف عند التسبب في رفع تكلفة المعيشة بل تتجاوزه إلى اعتبار الخطوة بمثابة مغامرة غير محسوبة النتائج في ظل الظروف الأمنية والسياسية المضطربة التي تشهدها العديد من دول المنطقة، كما ذهبت بعض الآراء إلى أبعد من ذلك، حيث رأت في الدراسة بوادر استجابة غير معلنة لتوصيات مؤسسات ومراكز أبحاث اقتصادية دولية سبق لها التحذير من خطورة استمرار سياسات دعم الطاقة على اقتصادات دول الخليج وفي مقدمتها المملكة، ورأى فيها البعض بداية تدخل غير مبرر لتلك المؤسسات في الخيارات الاقتصادية لدول المنطقة. العلاقة بين الدعم والاستهلاك وبعيدا عن ردود الأفعال تجاه الدراسة، فإن الأمر المؤكد هو أن بلادنا في حاجة فعلية لإجراءات عاجلة تستهدف السيطرة على الاستهلاك المفرط للطاقة والذي يأخذ منحى تصاعديا مثيرا للقلق؛ سببه الأساسي هو السياسات المشجعة على الإسراف، وغياب منظومة نقل عام وطني، وعدم اهتمامنا جديا بملف تطوير الطاقات المتجددة حتى سنوات قليلة مضت، ومقدار الدعم الكبير الموجه لإبقاء أسعار الوقود والكهرباء عند مستوى متدنٍ، الأمر الذي جعل استهلاكنا من النفط يبلغ نحو ثلث إنتاجنا اليومي ويستقطع نحو 10 في المئة من ناتجنا الإجمالي بعد أن وصل مقدار مبلغ دعم الوقود لحوالي 163 مليار ريال سنويا، وفقا لتقرير دعم الطاقة الصادر عن الأممالمتحدة، الاستقطاع السابق يمثل الأعلى من نوعه على مستوى دول مجلس التعاون التي تزيد فيها أسعار المشتقات البترولية على مثيلاتها في المملكة. ضرر الاستهلاك على الميزانية وإذا كان توجه توحيد الأسعار هو بمثابة إجراء محفوف بالمخاطر ولا يحظى بقبول شعبي، فإن استمرار معدل استهلاكنا الحالي للمحروقات المدعومة سوف لن يقل في مخاطره عن توحيد السعر، خصوصا إذا ما قررنا تأجيل أي إجراءات ترشيدية إلى حين اكتمال منظومة مشاريع النقل، التي ستستغرق ما بين 5 إلى 10 سنوات، والتوسع في توليد الكهرباء وتحلية المياه بالطاقة الشمسية، إلا أن الفارق بينهما هو في الفترة الزمنية اللازمة لظهور نتائجه السلبية، ففي حين أن تأثير تطبيق السعر الموحد لو تم الأخذ به سيكون سريعا، فإن تداعيات إغفال السيطرة على تنامي حجم الاستهلاك الداخلي سوف تستغرق وقتا أطول قبل الوصول لمرحلة التأثير سلبا على كل من قدرة بلادنا على ضمان إمداد الأسواق العالمية بما تحتاجه من نفط وكذلك على ميزانيتنا التي تعتمد بنسبة 92 في المئة على الإيرادات النفطية في ظل محدودية بدائل عملية ومعقولة لتنويع مصادر الدخل الحكومي في بلد يفتقر لمقومات اقتصادية حقيقية، كالصناعات المتقدمة والإنتاج الزراعي والسياحة، ولايزال يستقدم مليون عامل وافد سنويا. كابوس توقف التصدير أو الإستيراد والوضع كذلك، فإن من الأهمية بمكان البدء فورا بخطوة هامة لمراجعة آلية دعم الطاقة الحالي بدون المزيد من الانتظار ولا التسويف اللذين عهدناهما في التعامل مع بعض التحديات الوطنية الرئيسية، وهذا بدوره يتطلب تكثيف جهودنا لإيجاد بدائل مناسبة من شأنها تفعيل سياسة ترشيد الاستهلاك في الأسواق المحلية لتحقيق هدف التخفيض وذلك انطلاقا من إعادة هيكلة دعم الوقود بحيث تقتصر الاستفادة منه على الشرائح الاجتماعية الوطنية الأقل دخلا، ويستثنى منه أصحاب الدخول المرتفعة عن مستوى معين والوافدين والمستثمرين، وذلك قبل أن نفيق يوما على وقع كابوس مزعج هو تحقق توقعات عدم القدرة على تصدير البترول أو الوصول لما هو أسوأ من ذلك، وهو استنتاج مؤسسة سيتي بنك المالية بأن المملكة قد تصبح دولة مستوردة للنفط بحلول عام 2030. مقترح الزيادة السنوية التدريجية ولأن أي مبادرات لترشيد الاستهلاك الداخلي من النفط ومشتقاته ترتبط عضويا بالتسعير، فإن هناك مقترحا أطرحه أمام المعنيين لدراسته ويتمثل الرفع التدريجي لسعر الوقود بنسبة ضئيلة نسبيا كل عام قد تتراوح بين 5 إلى 10 في المئة وذلك اعتبارا من بداية العام المالي القادم، زيادة كهذه من شأنها تحقيق مصالح استراتيجية عديدة، أبرزها في تقديري هو تجنب الانتقال الفجائي بالأسعار المحلية للوقود من المستويات الحالية المتدنية إلى مستوى المتوسط السعري في باقي دول مجلس التعاون والذي سيتجاوز غالبا نسبة ومقدار الزيادة السنوية الضئيلة المقترحة وبالتالي عدم التسبب في إحداث ضغوط تضخمية تصعب إدارتها والسيطرة عليها بوسائل وأدوات السياسة الاقتصادية والمالية التقليدية. زيادة الوعي بقضية الترشيد من جانب آخر، فإن التدرج في رفع الدعم سيسهم في لفت اهتمام الرأي العام إلى قضية الترشيد الغائبة إلى حد كبير عن الذهنية الجمعية التي تعتبر مستوى السعر الحالي هو أمر بديهي وتعتقد بأنه سيستمر على الدوام، وبالتالي فإن المقترح سيؤدي إلى الخفض التدريجي لمعدلات الاستهلاك الحالية وذلك نتيجة لزيادة الوعي من جانب ولارتفاع السعر من الجانب الآخر وبدون الاضطرار لإجراءات صادمة لا يستطيع المجتمع امتصاص تأثيراتها السلبية. دعم الزيادة بسعر الصرف وقد يقول قائل بأن الرفع التدريجي السنوي لأسعار الوقود سيؤدي مع مرور الوقت إلى زيادة الأعباء المعيشية نتيجة للارتفاع المتوقع على تكلفة إنتاج معظم السلع وأجور الكثير من الخدمات، وهذا صحيح لذلك فإن التصور الذي أطرحه قد لا يكون كفيلا بمفرده لتحقيق الهدف المنشود بل لابد من دعمه بإجراءات إضافية، من أهمها تفعيل بعض أدوات السياسة النقدية لعل من أبرزها رفع سعر صرف الريال مقابل الدولار بنسبة مقاربة لنسبة رفع سعر الوقود لاسيما أن ثبات سعر الصرف الحالي منذ أكثر من 27 عاما كان أحد أسباب تعثر جهود كبح جماح التضخم، إلا أن إجراء كهذا سيكون له انعاكسه على تراجع الدخل الحكومي الذي يأتي أكثره بالدرلار، ومع ذلك فإن الانخفاض يمكن احتماله بدون التأثير على سياسة الإنفاق التوسعي الذي تنتهجه الحكومة، وذلك بالنظر إلى تحقيق ميزانيتنا فائضا جيدا في السنوات القلائل الماضية فضلا عن ارتفاع حجم الاحتياطات النقدية لدى مؤسسة النقد. إيجابيات ترشيد الاستهلاك ختاما، فإنه من الأهمية بمكان التأكيد على أنه بالرغم من التأثير السلبي المحتمل لزيادة أسعار الوقود، إلا أن أية إجراءات سيتم اتخاذها لترشيد استهلاكنا المتزايد منه سوف لن يتوقف أثرها على إطالة أمد استفادتنا من الثروة التي أودعها الله باطن أرضنا، بل سيكون لها أيضا العديد من الإيجابيات المباشرة وغير المباشرة يتصدرها بطبيعة الحال الإسهام في وقف تهريب المشتقات من المملكة لدول الجوار، إضافة إلى خلق منافسة حقيقية بين صناعاتنا الوطنية ونظيراتها الخارجية بعد توقف إعتماد مصنعينا على السعر المدعوم للوقود، وبالتالي تحول المنافسة باتجاه الارتقاء بكفاءة الإنتاج، هذا فضلا عن حفزها للتوسع في استخدام الطاقات المتجددة الصديقة للبيئة.