أثار كتاب الراحل «توفيق الحكيم» (عودة الوعي) صدمة هائلة للتيارات الناصرية والأحزاب القومية حين رصد الأحداث منذ ثورة 1952م في مصر وحتى موت عبدالناصر، وهي مشاهد وقراءات لمرحلة دقيقة وحساسة غابت فيها المكاشفة الصريحة عن ذلك التاريخ وملابساته وصراعاته مع قوى وصداقات ومع عناصر أخرى ليفتح (الحكيم) الباب على نقد تلك المرحلة وتداعياتها وآثارها.. عاصرت تلك السنوات زعامات أصبحت إما رجعية من بقايا الاستعمار، أو تبعية للغرب وقد أُسقط معظمها وبقيت أخرى من خلال دعاية منظمة لمشروع عروبي قومي كان الأساس في تحريك القوى والشارع العربي لأن تلتف هذه الأمة على وحدة شاملة تلغَى فيها الحدود والحواجز، وتؤمم فيها المؤسسات والمصانع وإنشاء الحزب القومي العربي العام، إلى آخر تلك الحركة التي لا تزال تثير جدل المؤرخين والمحللين من ناقد إلى حد التجني، وآخر بتقصي بعض الحقائق ليس عن عبدالناصر وحده وإنما عن كل من شاركوه التأييد أو انقلبوا عليه مثل البعثيين وغيرهم، ومع ذلك تبقى تلك التجارب مجرد ذكريات، لأن امتداداتها انتهت تماماً كما انتهت مرحلة المد اليساري الشيوعي مع زوال الاتحاد السوفياتي.. يعيدني هذا التاريخ الذي عشناه شباباً متحمساً يحفظ القصائد ويهتف للوحدة والاشتراكية والحرية وتحرير فلسطين إلى واقع اليوم الذي حول تلك الأحلام إلى سراب وفجيعة، وأعظم من كل النكسات التي حدثت عام 1948،1967م لكن ألا يوجد في تلك الرحلة المرتبكة ما يضيء بعض الطرق والاتجاهات التي ضاعت في معمعة الصوت الجهوري القومي لشخصيات لها وزنها في التاريخ العربي مثل نوري السعيد، ومحمد الخامس، والسنوسيين في ليبيا وغيرهم ثم الحبيب بورقيبة الذي كان الجدلية التاريخية رغم ضعف تأثيره السياسي والاقتصادي وخاصة ممن رأوا في أفكاره (رجعية) يستمدها من خلفيته الثقافية الفرنسية بينما الرجل، وللحقيقة فقط، هو من طالب الفلسطينيين بالقبول بالتقسيم الذي أقرته الأممالمتحدة معتمداً على نظريته (خذ وطالب) وهي التي حولته إلى مجرم حتى من بين الفلسطينيين الذين قالوا (إما بفلسطين كاملة) أو النضال والنتيجة معروفة بنهاياتها غير السعيدة وهذا لا يعني أن بورقيبة ليس له تجاوزات ولكنه الوحيد من بين زعماء تلك المرحلة التحررية والثورية من بقىي تأثيره على تونس قائماً حتى بعد ثورتها الأخيرة وارتباكها ثم انتخاباتها الأخيرة التي تجاوزت احتكار السلطة للإسلاميين وغيرهم، لبناء حكومة وبرلمان يمثلان المجتمع بأسره، غير أن ظل بورقيبة كان ظاهراً ومميزاً، والسبب أن الرجل وضع سلم أولويات كانت في وقتها ثورة على المألوف العربي كله حين ساوى حقوق المرأة بالرجل، وهو ما أشرت له في كلمة "الرياض" سابقاً، وهذا العمل الذي قد يتفق عليه البعض وترفضه الأكثرية سواء بتخريجات دينية أو تقاليد موروثة، فهو استطاع أن يبني جيلاً من خلال المرأة الأم والجدة استطاع أن يضع ثقافة جديدة أخرى تلغي الفصل بين الجنسين إلاّ في أمور تحددها طبيعة المكوّن (البيولوجي).؟ صحيح أن هناك بعض الامتدادات لزعامات أخرى، وغيرها اختفى معها ويستثنى من ذلك قامات كبرى مثل مؤسس هذا الوطن الملك عبدالعزيز، أو أمراء وشيوخ دول الخليج العربي، وإنما الغاية هي استعراض كيف اختفى ذلك الزخم الثوري والقومي التحرري الوحدوي، وهجرة المشيعين له بأدبياته وشعاراته وثقافته المؤدلجة، وبقي فقط ظل بورقيبة وحده من تلك الزعامات؟ التاريخ معادلة ناقصة في حال لم يُكتب مجرداً، والوطن العربي عاش مراحل تحتاج إلى إعادة كتابة تاريخها الحديث لجعل الأجيال تدرك كيف كانت المشاعر والمشاريع الوهمية، وكيف سقط ذلك الجدار وكشف عن حقائق اليوم ومآسيه؟! لمراسلة الكاتب: [email protected]