أتحفنا المفكر السياسي والمثقف المصري الدكتور مصطفي الفقي بمقال «العروبة ودول الخليج»، يتبرم فيه من محاولات بعض دول الخليج أو ممثليهم في المنظمات والبرلمانات العربية، باختزال العروبة في منطقة الخليج، إذ يقول في مقدمة المقال «هناك محاولة توحي باختزال العروبة في منطقة الخليج، خصوصاً بعد النجاح المشهود به الذي حققه مجلس التعاون الخليجي في العقود الثلاثة الأخيرة، («الحياة»، 28 شباط (فبراير) 2012) ... يبدو أن دكتورنا الفاضل لا يزال يتحدث بلغة الأنظمة الثورية العربية المتخشبة نفسها، قبل «الربيع العربي»، ولم يستشعر التغيير الذي نتج عن الثورات العربية المتواترة، خصوصاً مصر، أم أن المغالطة مقصودة لتسويق مفاهيم عفا عليها الزمن، وسقطت مع سقوط النظام المصري، أو أن دكتورنا المثقف يقبل التغيير في الفكر السياسي المصري في الداخل نتيجة ثورة 25 كانون الثاني (يناير)، وينكره على المتضررين منه في الخارج؟ القارئ للمقال يشعر بالمرارة في الحبر الذي كُتب به المقال وغصة في فكر الكاتب، على رغم محاولته تهذيب المقال بأمرين: تأكيد حبه لدول الخليج، وعدم إستعداء السعودية. في هذا المقال نود أن نتناقش مع دكتورنا الفاضل حول العروبة ومصر، ودول الخليج، والنظام العربي، لأربعة أمور أساسية، الأول: تصحيح لمفاهيم خاطئة تم تصديرها وتسويقها من الحواضر العربية، أو الأنظمة الثورية العربية على وجه الدقة، خلال نصف القرن الماضي، الثاني: لأن الدكتور مصطفى من خيرة المثقفين العرب ويمكن التناقش معه، ويقبل الجدل والجدل المضاد، في بعض الأحيان، كما أنه يملك الحد الأدنى من الموضوعية، الثالث: لأننا، أيضاً، نحب مصر وشعب مصر، ورابعاً: لأننا كبرنا ونضجنا، أو كما يقول عنوان المسرحية المصرية «العيال كبرت». بعيداً من عرب المناذرة والغساسنة، التي أوردها الدكتور مصطفى الفقي في مقدمة المقال آنف الذكر، أو العرب العاربة والمستعربة، نود أن نسأل في البداية، ما «العروبة»؟ ونلخص تعريف مصطلح العروبة لنقول أولاً: إنه مصطلح سياسي محض يُعنى بالقضايا والحقوق العربية والحماسة لها والدفاع عنها، وقد يندرج المصطلح على الأفراد والمنظمات، كما يندرج على الدول والشعوب، صحيح أن التاريخ واللغة والثقافة والأصل والنسب وغيرها مكونات وعناصر مساعدة ولكنها ليست جوهرية، فيمكن أن توصف دولة بأنها عروبية، أو يوصف شخص بأنه عروبي، ولو لم تكن تلك الدولة أو ذلك الشخص من أصل عربي، فكما أن هناك دولاً ومجتمعات في أوروبا وأميركا اللاتينية متحمسة وداعمة للقضايا العربية يمكن تصنيفها بالعروبية، يمكن لنا أن نقرر أن أشخاصاً مثل «غالوي»، عضو البرلمان البريطاني، عروبي بامتياز، لمواقفه المشرفة من القضية العربية، ثانياً: «العروبة»، تختلف عن القومية العربية التي تشكل حال أو شعوراً سياسياً يأتي إما بدافع الخوف أو الطموح، خوف على أو طموح إلى أمجاد وتسيد، ظهر ذلك جلياً عند ظهور القومية العربية في الشام، في أوائل القرن الماضي، لتخفيف السلطة العثمانية ومحاربة سياسة «التتريك»، أو ما تلاها من مناهضة الاستعمار الأجنبي لبريطانيا وفرنسا، حتى تزعمت مصر «القومجيون» العرب بزعامة عبدالناصر لقذف إسرائيل في البحر. إذن، العروبة مصطلح سياسي ينفعل بالشعور الحقيقي نحو المصالح والقضايا العربية، بينما القومية العربية مصطلح يغلب عليه الرغبة في التسيد، ويستقر حيثما كانت الغلبة والقوة السياسية، ولذا نلاحظ أن عبدالناصر استخدمها بشكل خاطئ محققاً بها أغراضه السياسية، وتسلح بها صدام حسين لابتزاز دول الخليج إبان الحرب العراقية الإيرانية، ويضعها بشار الأسد في مقدم شعاراته، باعتباره الوحيد الذي يقف في وجه إسرائيل، ويستخدمها بعض الكتّاب العرب من أمثال دكتورنا الفاضل لأسباب متعددة. من ناحية أخرى، لم تعد مصر تملك أياً من مقومات القوة السياسية، كما يحلو للبعض إيهامنا به، بصرف النظر عما يقوله بعض السياسيين كنوع من المجاملة الديبلوماسية، ولا يختلف معنا الدكتور مصطفى الفقي في ما ذهب إليه «إدوارد كار» في كتابه «أزمة ال20 عاماً»، بأن عناصر القوة السياسية غير القابلة للانفصام هي: القوة الاقتصادية، القوة العسكرية، وقوة الإعلام، أو السلطة على الرأي، كما يعبر بذلك «كار»، فمنذ منتصف الستينات الميلادية، على وجه التحديد، لا تملك مصر أياً من عناصر القوة السياسية المادية أو المعنوية للدولة الحديثة... اقتصاد متهالك، ومؤسسة عسكرية هشة، وإعلام تضاءل مع انتهاء فعالية «صوت العرب»، ما جعلها من «الدول الرضع»، وهو مصطلح يطلق على الدول التي تعيش على الإعانات. صحيح أنه أمر يبعث على الحسرة، لكن على الشرفاء من أبناء مصر أن يعوا الحقائق، وكيف آلت بهم الحال وتبدلت بهم الأحوال. جاءت ثورة 23 تموز (يوليو) المصرية على يد شباب من العسكر، خطفوا الأضواء، واختطفوا الأجندة، وهيجوا الشارعين المصري والعربي بشعارات اقتصادية وسياسية وأيديولوجيات أفقرت الغني ولم تغنِ الفقير، وهكذا عملت مصر عبدالناصر على كل ما من شأنه تقويض الملكيات «الرجعية» في معظم أرجاء الوطن العربي، وتسليم تلك الأوطان لحفنة من العسكر، بعد ذلك، جاءت مغامرة حزيران (يونيو) 67، التي زج فيها عبدالناصر ببلاده وشعبه والدول العربية المجاورة لإسرائيل في حرب غير عادلة لثلاثة أسباب: إنعدام الدافع، عدم التخطيط، والأنانية السياسية... السبب الأول: أن الدافع الحقيقي لحرب 67 لم يكن تحرير فلسطين، كما يُشاع ويسوقه لنا الإعلام والتاريخ المزيف، بل فشل النظام الناصري في حرب اليمن التي كان دعم عبدالناصر لها هو التمهيد للوصول إلى السعودية، تماماً، مثل صدام حسين الذي أدى به فشله في حرب دامت ثمانية أعوام مع إيران إلى مغامرته غير المحسوبة في غزو الكويت، السبب الثاني: أن العنفوان السياسي الذي تضخم بسبب الشعارات خلق فوقية أدت إلى انعدام التخطيط الإستراتيجي بكل مكوناته، أما السبب الثالث: فهو الأنانية السياسية المصرية، وهي الأنانية ذاتها التي أدت بالسادات إلى التوقيع على اتفاق «كامب ديفيد»، ضارباً عرض الحائط بكل الشعارات، ومن أهمها شعار «العروبة». من هنا يجوز لنا أن نستنتج أن تغيير النظام السياسي في السعودية والخليج كان الهدف الأسمى للأنظمة الثورية العربية، وأحسب أنه لا يزال يراود البعض بطرق وأساليب شتى ممن لم يستوعبوا أمرين، الأول: الخداع والتزييف السياسي للأنظمة الثورية العربية في ال «60» عاماً الماضية، الأمر الثاني: «الربيع العربي» وما أحدثه من تغيير، وأهم ما في ذلك الكفر بكل الشعارات التي رفعتها الأنظمة الثورية العربية في العقود الستة الماضية. إذا كانت ثورة 25 كانون الثاني (يناير) تحاول إعادة الأمور إلى نصابها، ليس بالإطاحة بنظام مبارك، الذي تعفن في الحكم فحسب، بل بكل الشعارات والأيديولوجيات التي خلفها النظام الناصري لحقبتي السادات ومبارك، ما أدى إلى شيء من المنطق السياسي الجديد ظهر على الساحة الداخلية المصرية، ويجب أن يندرج على الساحة الخارجية، وعلى رغم إدراك دكتورنا للتغيير إلا أننا نجده يكابر ويعيد منطق أستاذنا الصحافي المخضرم محمد حسنين هيكل، ولكن بشكل مختلف. * باحث سعودي. [email protected]