منذ مطلع العام الحالي تتشارك الانتفاضات العربية في إطلاق هتافات وشعارات تركز على الحرية والكرامة والتحرر من العبودية وصولاً إلى الدعوات القاطعة في إسقاط النظام، وتصل إلى استبدال الأشخاص بالرموز المتمثلة في المدن والبلدات التي تتعرض لقمع أجهزة الأمن، كما يحصل خصوصاً في سورية، عندما يتحول شعار «بالروح بالدم نفديك يا حماه، أو درعا أو حمص...» إلى الشعار الجامع. في المقابل، ينال الزعامات العربية من الهجوم الشعبي والهتافات المطالبة بالرحيل حيزاً لم تشهده المجتمعات العربية في تاريخها، من تحقير وتشنيع بهذا الزعيم أو ذاك. هذا التحول في الولاءات من الزعيم الأوحد إلى الوطن بكل ما يرمز إليه من شعب ومدن وبلدات، يشكل إحدى الظواهر الجديدة في العالم العربي، في ظل الانتفاضات الجارية راهناً، وهو تحوّل سيسم مستقبل الحراك المقبل وتكوّن السلطات والعلاقات في ما بينها. يتربع على عرش الأنظمة العربية مجموعة من القيادات والزعامات أنتجتها مرحلة معينة من تاريخ حركة التحرر الوطني منذ الخمسينات وصولاً إلى الثمانينات من القرن الماضي. أتت هذه القيادات نتيجة تسلمها مهمات النضال ضد الاستعمار في بعض الأقطار، فيما أتت الأخرى نتيجة انقلابات عسكرية، كانت تدعى زوراً بالثورات. لم تكن من دون مشروعية شعبية خلال صعودها، فقد أتت على حاملة تحرر وطني من جهة، وعلى برامج اجتماعية واقتصادية، طاولت في مضمونها أوسع الفئات الشعبية، خصوصاً مشاريع الإصلاح الزراعي والتأميمات. يضاف إلى ذلك كله، أن درجة التطور الاجتماعي والسياسي لمعظم الأنظمة العربية، في تلك المرحلة، كانت توفر لهؤلاء القادة ما يسمح لهم بتكريس قياداتهم على حساب المؤسسات الضعيفة أصلاً. إذا كان تكوّن الزعامات العربية، من عبدالناصر إلى أحمد بن بللا وهواري بومدين، والحبيب بورقيبة، وأنور السادات، ومعمر القذافي، وحافظ الأسد، وصدام حسين... قد أتى في سياقات سياسية واجتماعية يمكن أي باحث في علم الاجتماع أو السياسة أن يجد تفسيراً لصعودهم في مرحلة محددة من تاريخ تطور المجتمعات العربية، إلا أن التساؤل ينصب على التحولات التي أصابت الزعامات في نظرتها إلى شعوبها وفي نظرتها إلى نفسها أيضاً، وهي تحولات ترخي بثقلها اليوم على الانتفاضات الجارية وعلى كيفية تعاطي هذه الزعامات مع مطالب شعوبها بالتغيير وإقامة حكم جديد يكون للشعب فيه موقعه. ما يمكن اعتباره مشتركاً إلى حد بعيد بين هؤلاء الزعماء، أنهم اعتبروا أنفسهم أصحاب أدوار يغلب عليها سمة «الرسولية»، وأن الله قد أنعم على شعبه بأن وهب له هذا القائد المخلّص والمنقذ، هذا الدور الرسولي يعني أولاً أن القائد متربع على عرشه إلى الأبد، والموت وحده يزيله من قمة السلطة. يصف الكاتب الفرنسي هنري ميشال في كتابه «الفاشستيات» هذا النمط من القادة بالقول: «إن الزعيم يقبع فوق الجماهير وما يقوله يمثل الحقيقة، وما يفعله يقع في صميم مصالح الأمة، بل إنه يعتبر نفسه أيديولوجياً ونبياً في آن». تحول الزعماء إلى قادة سياسيين ومفكرين وفلاسفة وأصحاب نظريات كلية في الكون، وشعراء وكاتبي روايات عظيمة... وأعطى بعضهم لنفسه صفات الألوهية والقداسة. لم تبخل المجتمعات العربية على هذه القيادات بإنتاج نخب ومثقفين بنوا نظريات تؤكد الصفات الاستثنائية لزعمائنا وتكرسهم في خانة الأنبياء والقديسين. على امتداد العقود الماضية، كانت هذه الزعامات تحصد الخيبات في جميع الميادين التي اكتسبت مشروعيتها عبر الوعود التي أطلقتها، في السياسة والاقتصاد والتحرر الوطني والقومي، ما أفقدها الحد الأدنى من المشروعية الشعبية التي كانت قد اكتسبتها. لا يدور في خلد أي من الزعماء التنحي وتسليم آخرين السلطة، بعد الفشل الذي مني به حكمه، بل ما بات قانوناً لدى هؤلاء تمثل بالتشبث بالسلطة وبناء دولة أمنية تسلطية لحمايتها، واستغلال موارد الدولة لخدمة مصالح الفئة القليلة من الممسكين بالسلطة، بما جعل الدولة مختزلة في الزعيم على ما يقول ملك فرنسا لويس الرابع عشر «أنا الدولة والدولة أنا»، وصولاً إلى تهديد المجتمع بأن تغيير الحاكم سيعني الفوضى والحرب الأهلية. يقف الزعماء مدهوشين اليوم أمام مسلك الشعب المطالب برحيلهم، ويصفونه بالعقوق نظراً إلى «تفاني» هذا الزعيم في خدمته، بل نهبه واستغلاله وقمعه. كانت الانتفاضات تحتاج بقوة الى تحطيم صورة القائد «الرمز» كمدخل لا بد منه لكسر حاجز الخوف الذي عمل الزعماء على تشييده وتدعيمه على امتداد عقود. لم تجد حرجاً في صعود مدها الجماهيري من دون قيادات «كاريزمية»، بل بدا الأمر أكثر إلحاحاً لمنع القيادات التقليدية من التنطح لقيادة الانتفاضات وتكريس نفسها زعامات على حاملة الحراك الشعبي. وهو أمر يطرح اليوم على الانتفاضات مسألة بناء القيادات بعد أن حطمت الرموز السابقة. مما لا شك فيه أن الانتفاضات الجارية يستحيل عليها أن تبقى في حالة «هيولية» تفرضها طبيعة المرحلة الراهنة، بل إن إحدى المعضلات الفعلية ستظل مرهونة بتكوّن القيادات السياسية واكتساب خبرة في إدارة الانجازات، وهي مهمة أصعب بكثير من الهدم الضروري الجاري في أكثر من مكان. تساعد الانتفاضات على تكوين قيادات سياسية خلال الحراك، وتختزل فترات زمنية تحتاجها هذه القيادات في زمن السلم والتراخي. ما يدعو إلى التفاؤل أن القيادات السائرة في طريق التكوّن تكتسب شرعيتها من الشارع ومن مواجهة أنظمة القمع، وليس من خلال الانقلابات العسكرية وهيمنتها على السلطة. لا يعني مسار الانتفاضات أن الحاجة الى الزعماء والقادة قد انتفت، بل على العكس، ما تقوله الانتفاضات إن زمن الزعامات السابقة قد أفل بعضه، وغيره سائر الى أفول، ليحل محلها زعامات تستمد مشروعيتها من الشعب، وتستند الى دولة القانون. تلك ستكون أبرز التحديات في تواصل الانتفاضات والحد من نكوصها، في ظروف صعبة جداً تمر فيها أمام استفحال موجة القمع الدامي لإجهاض كل حراك شعبي.