يتركز التعامل في كثير من الأحيان مع ظاهرة التطرف والعنف باعتبارها نبتة شاذة دون البحث بعمق عن جذورها واكتشاف عوامل انتشارها.. حيث لا يكفي أن نقرأها باعتبارها تؤول إلى أفكار عقدية دينية.. وإن كان هذا جانباً مهماً وأساسياً لابد من مقاربته، إلا أن فهم طبيعة الحواضن الاجتماعية التي تمده بالقدرة على الحياة مسألة على جانب كبير من الأهمية من ناحية أخرى كلاهما داء عضال يقود إلى مهاوي التردي. ما بين التخلف والتطرف سمات وعلاقات ومشتركات وبواعث لابد من مقاربتها، حتى لا نضيع بوصلة النجاة وسط هذا الخضم شديد الارتباك، شديد التوتر. يدفع المجتمع العربي ثمناً باهضاً وربما يكون كارثياً، إذ تنمو جماعات التطرف، وتكاد تغزو محيطاً يتسم بالهشاشة والضعف. فقد كشفت عقود الدولة الوطنية أنها لم تصنع الكثير في مسألة هي المعول عليها أن تكون درعاً وحصناً من التطرف وتوابعه.. فلم تبرح عالم التخلف على مستويات كثيرة، بعضها مرتبط ببعض، مؤثر أشد التأثير في الآخر.. عوامل إذا لم يمكن مقاربتها فكأننا نضع كل وسائل تشخصينا على النتائج والظواهر، دون بحث الأسباب والعلل التي تعيد إنتاج ذات الأمراض والكوارث. رفض البعض لواقعه والانطواء على فكرة خلاصية.. هي مقدمات لحالة تطرف.. وليس بالضرورة أن تتحول مباشرة إلى تنظيم إرهاب وخراب. ولأن الإنسان تكوين ثقافي واجتماعي، فهذا يجعل من السهل استلاب وعيه عبر الأزمات والاختناقات والفشل والعوز.. ليفقد كل الثقة بالحكومات، وينزع كل العلاقات مع محيط يراه متورطاً أو فاسداً أو جاهلياً ليناجي عالماً آخر، لا وجود له إلا في خياله، أو في رؤية تاريخية قد تقترب من المثل التي يتوخاها.. وقد تكون وهماً كبيراً تم النفخ إلى درجة السيطرة والتوجيه. عوامل الجهل أو التجهيل التي لم تبرح المنطقة العربية منذ عقود، رغم انتشار التعليم والتلقين.. والمحيط الهش والمرتبك والقاسي.. القاسي من خلال الشعور بالعزلة عن المجموع والقاسي بانعدام الأمل بالقدرة على التعايش مع أوضاع ليس لها قابلية الاستيعاب والتوظيف الإيجابي.. إنما تراكم المزيد من الشعور باليأس مما يدفع لعزلة التطرف، التي تصنع لها عالماً خفياً، قد يتطور لحالة تستهدف التقويض والهدم. وفي خضم المواجهة تنمو عوامل تزيد في توتر المجتمع.. فالثقة أولى ضحايا سياسة الاستقطاب والتوظيف.. حتى لو قصمت ظهر الإجماع الوطني. أليس هذا بعض ما نراه اليوم في بعض البلدان العربية. ألم يكن الاستبداد عاملاً فاعلاً في تقسيم المجتمعات وتكريس الظلم.. حتى أوصلت تلك البلدان إلى حالة استعصاء. أليس الفقر والتراجع الاقتصادي سمة غالبة في كثير من البلدان العربية. وهذه لا يمكن نزعها أو فصلها عن التردي الاجتماعي والثقافي. فالعقول النيرة لا تنمو في بيئات القهر والعوز بل تنمو في بيئات الكرامة والاكتفاء. ينتج القهر والعوز طبقة اجتماعية، تتسم بالجهل والضعف، ومن السهل استرقاق بعض أفرادها للعمل في الممنوعات وغير المشروع التي تقوض خيرية المجتمع.. ويدفع هذا لتطور ملموس في طريق الانهيار الاجتماعي له تبعاته وقضاياه ومخاطره.. حيث تتراخى القيم الاجتماعية الخيرة، وتنمو بذور الشر والتشويه واستغلال البشر وتعظيم عوائد التجهيل والفقر، لتصبح في خدمة طبقة أخرى تستثمر هذه الأوضاع لتعظيم عوائدها وتكريس نفوذها وزيادة ثروتها مهما كانت كارثية نتائجها.. وإذا أفلت البعض منها، فإنه قد يقع في حضن فكر متطرف لا يرى حلاً لواقعه المؤلم سوى هدم البيت على رأس من فيه. في المجتمع العربي ظهر في العقود الأخيرة هذا التباين المذهل بين الطبقات الاجتماعية. فهناك طبقة الأثرياء الجدد التي راكمت ثرواتها عبر استغلال عوامل الفساد وبالتعاون غالباً مع أصحاب النفوذ - حيث ضعفت أخلاقيات الثراء المحكومة بعوامل الإنتاج واحترام القانون - وأصبح هناك طبقة داعمة لاستدامة عوامل القهر والفساد.. بينما تراجعت الطبقة الوسطى التي تتسم في الغالب بدرجة من التعليم وتحمل طموح تطوير ذاتها ومقدراتها.. مما راكم من سكان العشوائيات ومدن الصفيح وحتى المقابر.. كما راكم حالة الأمية بأنواعها. الفشل الاقتصادي، وزيادة معدلات الفقر والجهل، سمة في مجتمعات التخلف التي لم تسلم من التطرف والإرهاب، ولذلك تعاني اليوم مأزقاً كبيراً.. فهي تواجه نمو جماعات العنف والإرهاب والتطرف، ولكنها عاجزة أيضاً عن صناعة عالم مستجيب لمواطنيها.. فالعلاقة بين التخلف والتطرف سمة أصبحت لازمة في بلدان افتقدت إلى مشروعات وبرامج العدالة الاجتماعية ومقاومة الفساد.. وتقديم نموذج للحكومات الرشيدة. أما الاستبداد والتحكم في شروط إنتاج النظام السياسي، فقد قادت إلى إخفاق مذهل في شتى مجالات الحياة. فلم تكن المشاركة السياسية في بناء نظام مستجيب هي شغل النظم لأنها ظلت لا ترى شعوبها سوى مجموع بشري يمكن التحكم به عن طريق الإعلام، وقبضة الأجهزة الأمنية. ولقد رأينا منذ اندلاع الثورات الشعبية في المنطقة العربية، أن العامل الأول للإنهاك، هي تلك النظم التي جثمت على صدور شعوبها عقوداً دون أن تقدم سوى مزيدٍ من الفشل والعوز وأصبح جل أحلام شبابها مغادرة أوطانها للخارج. وسائل التأثير في العقل الجمعي عبر الإعلام الرسمي ظل يعيد إنتاج نفسه عبر مقولات لم يعد من الممكن قبولها بإطلاق أو التفاعل معها. وعندما ظهرت وسائل التواصل الاجتماعي كسرت هذا الاحتكار.. وجد عالم من الشباب نفسه في تيار متلاطم من الرؤى، واكتشف المزيد عن عالمه وعن الآخر.. وبدأت ملامح جيل جديد ليس بالضرورة أن يتمتع برؤية يمكن تأطيرها وحصيلة ثقافية جيدة.. ولكنه الأقدر على إدارة الفوضى والاضطراب في وسط اجتماعي يتلقف كل شيء.. دون مروره على مرشحات تضبط القبول والرفض أو تدير حواراً جاداً حول مقومات الأفكار وصلاحيتها.. ولا عجب حينها أن تكون تلك الوسائل والأدوات التقنية بقدر سمتها التي تعبر عن القرن الحادي والعشرين وتطور العالم الاتصالي.. إلا أنها تتحرك في محيط ثقافي هش وفي وسط اجتماعي مغرق بأزماته وفي حالة ثقافية واهنة وضعيفة، وهو ما يعبر عن حد التخلف على الأقل من منظور البناء الثقافي.. حيث تكون تلك البيئة مناسبة لنشر أفكار الرفض والتطرف وجماعات العنف.. كما هي قادرة على إنتاج ألوان التفسخ والانحلال الأخلاقي. يتركز التعامل في كثير من الأحيان مع ظاهرة التطرف والعنف باعتبارها نبته شاذة دون البحث بعمق عن جذورها واكتشاف عوامل انتشارها.. حيث لا يكفي أن نقرأها باعتبارها تؤول إلى أفكار عقدية دينية.. وإن كان هذا جانباً مهماً وأساسياً لابد من مقاربته، إلا أن فهم طبيعة الحواضن الاجتماعية التي تمده بالقدرة على الحياة مسألة على جانب كبير من الأهمية من ناحية أخرى. وكل هذا لا يعني أنه ليس هناك عوامل خارجية، عملت على استغلال هذه الظاهرة وتوظيفها في الهدم والتقويض.. إلا أن العوامل أو المؤامرات الخارجية لن تكون فاعلة أو مؤثرة لو كان البيئة الداخلية تتمتع بدرجة عالية من الحصانة، وهي تحقق نتائج أفضل في مسار الحياة لأبنائها، وهي واثقة من قدرتها على صناعة عالم أفضل لجيل تتلاطمه التوجهات والأفكار.. ويتطلع لمن يقوده إلى حالة الكفاية والكرامة والاستقرار. لمراسلة الكاتب: [email protected]