يقول الروائي والمسرحي مفلح العدوان أن كل كتاب هو تجربة إنسانية مختلفة عن الأخرى الناتجة عن كتاب آخر، كما أن كل كتاب هو حالة إبداعية فيها تماس مع روح مختلفة وبشكل مغاير، لذا فهو يرى أن حصر الأثر لتلك القراءات في كتاب واحد أو اثنين اجتزاء من التجربة التفاعلية الإنسانية، جاء ذلك خلال حوارنا معه على منضدة قصتي مع كتاب، والعدوان تميز بتعدد الاهتمامات نال على أثرها العديد من الجوائز، فهو روائي وكاتب صحفي ومسرحي نشرت لها الكثير من القصص والروايات ك"الرحى" و"موت عزرائيل" و"العتبات" وفي المسرح "ظلال القرى" ومسرحية "عشيات الحلم" التي فاز بها بجائزة الشارقة للإبداع المسرحي 2001 م وكذلك حاز على جائزة اليونسكو للكتابة الإبداعية بنفس العام ويترأس حاليا الدائرة الثقافية بالديوان الملكي الهاشمي الاردني فإلى الحوار: * ما هو الكتاب الذي أحدث تأثيراً فيك بعد قراءته؟ - نهر من القراءات هي تلك الكتب التي تشكل جانبا من المخزون الفكري والثقافي والابداعي للكاتب، وتنتج كيمياء تلك الأبعاد الإنسانية لديه، وتجدد خلايا وعيه، لتفضي به الى سلالم ارتقائه نحو سدّة التصالح مع الكون، والذات، والآخر إن الحالة الإبداعية في بنيتها تركيب متشابك، ومعمار متداخل، ونتاج تفاعلات كثيرة، لا يمكن حصرها في جانب واحد، إذ إن بعضها ذاتي، كما أن هناك جوانب أخرى غيريّة فيها، تنعكس في مجملها على الذات الابداعية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.. واحد من تلك المؤثرات التي تلعب دورا مهما في تشكيل وعي المبدع، وأبجديات الكاتب، وخيال الفنا، هي القراءات التي تعتبر نبعا مهما في هندسة الذات المبدعة. ولعل حصر الأثر لتلك القراءات في كتاب واحد أو اثنين فيه اجتزاء من التجربة التفاعلية الانسانية، إذ إن كل كتاب هو تجربة انسانية مختلفة عن الأخرى التي يمثلها كتاب آخر، وكل كتاب هو حالة ابداعية، فيه تماس مع روح مختلفة، وتشكيل لمعيار مغاير.. والقراءة سباحة في كل الاتجاهات، بينما الكتابة هندسة عمودية، أساساتها بناء يعتمد في جانب منه على تلك القراءات، لكنه يعلو ليكون له شكله المختلف، ونوافذه وشرفاته، واطلالاته، التي يتكون منها هذا المعمار المختلف، والذي هو روح وشكل الابداع والكتابة الجديدة لكن هناك قراءات تبقى راسخة في الذاكرة، ويكون العودة اليها، كل حين، اذ ثمة حبل سري، وحبر عبقري، يكون بين تلك الكتب، وبين روح القارئ، لذا فهي الأقرب الى مكتب هذا المريد/ القارئ المبدع، وعلى الرف الملاصق لمكان استراحته، ويكون الرجوع اليها، للتحليق في رياضها، أو للاستزادة من روحها، وفضاءاتها، ولعلني هنا أستطيع أن أشير الى أنه من بين كثير من الكتب التي تحمل هذه الصفة، أركن احيانا الى أربعة كتب، أجد فيها روح تلك السحب التي أفيء اليها، كل حين، وعندما أقرأها، وأعيد تصفحها، يتلبسني عشقها، ويزداد أثرها، وهنا أذكر منها الشاهنامة للفردوسي، وقوة الأسطورة لجوزيف كامبل، والمواقف والمخاطبات للنفري، وفن الهوى لأوفيد، يأسرني الوقوف في حضرة "الشاهنامة" التي نظمها الفردوسي، فهي واحدة من محطات الأدب الانساني، وهي نص طويل من الأدب الفارسي، إنها ألياذة الشرق، أحداثها بين الهند والصين وحتى البحر الابيض المتوسط، وتشمل زخم روايات تتعلق بتاريخ الفرس وأساطيرهم، ومن خلال هذه الاحداث والروايات يكون المرور على كثير من الامم المعاصرة لتلك الفترة التي تغطيها الشاهنامة. وهي تعبير عن مضمون الفكر الشرقي، ورؤيته للعالم، ولقضايا تمس الانسان وحقيقة وجوده، إنها ملحمة شعرية ضخمة، توازي الالياذة والاوديسة والمهابهارته والراماينا والانياذة، فيها قسم تاريخي حول الساسانيين، وبها قسم اسطوري خرافي، انها ارث انساني، ولعل قصة حول معاناة كتابتها، لا تقل روعة عن متن نصها، وتفاصيلها، فلقد امضى الفردوسي قرابة خمس وثلاثين سنة في نظم الشاهنامة، لتكون محصلة عدد أبياتها ستون ألف بيتا. أما كتاب "قوة الأسطورة"، للكاتب الأمريكي جوزيف كامبل، فهو حديث نسبيا، وهو كتاب مهم في ربط تداعيات كثيرة من مظاهر عصرنا والقفزة العلمية والتقنية فيه، والتي انعكست على المجتمع الكوني برمته، مع تلك الأبعاد الميثولوجية القديمة في العقل الجمعي، وتلك المؤثرات الميثولوجية ذات حضور قوي وفعال في الحياة اليومية، لكننا نعيشها دون ان نستشعر عنوانها القديم هذا.. في هذا الكتاب رسالة بأن "التقنية لن تنقذنا. حواسيبنا، أدواتنا، وآلاتنا، ليست كافية. علينا أن نثق بحدسنا، بوجودنا الحقيقي" على حد قول جوزيف كامبل. وهذا الكتاب المهم، هو خلاصة حوار تلفزيوني مصور قوامه 24 ساعة تصوير، أجراها "بيل مويرز" مع "جوزيف كامبل"، بين عامي 1985 و 1986م، وفيه حوار افكار، وتساؤل عميق حول الاسطورة وأثرها في الشعوب، حيث أن تلك الأساطير "تمثل المفاتيح التي توصلنا الى أعماق قوانا الروحية، وقادرة في الوقت ذاته على أن توصلنا الى الفرح والاستنارة وحتى الغبطة الروحية..".وعن كتابي المواقف والمخاطبات، للنفري، فيمكن البدء من اشراقة ومضة، للنفري، يقول فيها: "الحرف يسري حيث القصد؛ جيم جنة، جيم جحيم"، ومعها أعيد تتبع الرؤية، دائما، فيما أقرأ لدى (محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري المتوفى سنة 690 ه)، هو الذي أسس، كما يصف أدونيس، لقصيدة النثر الحديثة، من خلال الومضة والتكثيف لديه؛ فهو في كتاب المخاطبات يشكل حالة خاصة، مختلفة، عن كل الكتابات الصوفية، في لغته الحوارية المفتوحة، غير المتصلة، إنه يعالج الرؤيا التي تنتج التجربة، وهو لا يستعير فيما يكتب صورة البيان بدلالته الظاهرة، بل ينجزه بقدر تفاعلاته في صميم التجربة: "الحروف كلها مرضى، إلا الألف، أما ترى كل حرف مائل، أما ترى الالف قائما غير مائل، إنما المرض الميل، إنما الميل للسقام، فلا تمل". وفي "المواقف"، الكتاب الثاني للنفري"، هناك كثير من التأمل، والقلق، وكل عبارة مسبوقة ب"وقال لي"، في استدراج لحالة قد تفضي الى الخروج من درب سؤال الوجود وصولا الى بوابة الحيرة لدى المتصوف: "الهدي هو أن يهتدي الإنسان الى الحيرة، فيعلم أن الأمر حيرة، والحيرة قلق وحركة، والحركة حياة فلا سكون فلا موت، ووجود فلا عدم". أعود في الكتاب الأخير، في تراتبية العرض والسرد هنا، وليس في درجة القيمة الإبداعية، أتصفح كتاب "فن الهوى" لأوفيد (بوبليوس أوفيدوس ناسو/ ولد عام 43 قبل الميلاد)، ففيه قصص وحكايات ومواقف، في فن الهوى، يتم التعبير عنها بأسلوب فريد، ووضوح روح، ورؤية ثاقبة، وموضوعية عالية، وذكاء مستنير، وخفة ظل شفيفة، وسخرية محببة، كما أن فيه جوانب آخرى بحاجة الى مزيد من الاطلاع خلال تلك الفترة التي عاش فيها الشاعر، وكتب فيها الكتاب، انه لوحة بالغة الدقة والروعة والذكاء والحنكة، وهو يعكس لوحة عصره من خلال كتابه الرائع هذا: "إذن فلتكن لنفسك روح مشرقة صنو لجمالك، فهي وحدها تبقى الى جوارك حتى ساعتك الأخيرة فوق المحرقة. واصقل فكرك بالفنون والآداب ولا تهوّن من شأنهما، واغترف من اللغتين سحر القول". * ما نوع التأثير وهل أنت مقتنع بالتأثير، وما مدى استمرار تأثيره؟ - يمكن القول أنه عند قراءة مثل هذه الكتب، والعودة اليها، في حالة من التنسك في صفحاتها، والاعتكاف بين أسطرها، إنها ايقاع يتواءم مع روح الكتابة التي أعشق، والتي أغامر في التعبير من خلالها، والعبور الى تجربتي الخاصة وتجريبي المختلف، في هدم معمار الأساطير وإعادة بنائها، والولوج الى أكواخ التراث، وكتبه، ومصادره، ونبشها، واستحضارها واقعا، بلا قداسة لها، بل بمحاكاة جوهرها، لتكون المعاصرة بوتقة لهضم ذاك الإرث، وتلمس ايقاع السلام الداخلي، وولوج نافذة بلورة الروح، هناك مناجاة مختلفة لها عبر كتابات المعلمين من المتصوفة المالكين لمفاتيح الكشف، وخيالات الشعر العالمي الكلاسيكي الذي يتجلى قيثارة يمكن الاستماع لها، واعادة ترنيمها، في حالة تجعل بالإمكان أن يكون السرد أكثر شعرية، والشعر أعمق فكرة وصورة، ولعل نماذجي الخمسة من الكتب، لأربعة مؤلفين، تعطي نماذج لسرب آخر من الكتب والكتاب الذين يضيفون الى الأدب الانساني، والتجربة الكونية، وأحاول، بتجربتي المتواضعة، من خلال التفاعل معها، نسج نموذج الحالة التي تخرج الكتابة عبرها، بإنسانية عالية، وبمزيج فيه تنوع بين التجربة الذاتية، والترحال والغوص في التجربة الانسانية، وهل تلك الكتابات التي نقرأها إلا خلاصة تجربة آلاف السنين التي نتتبع تجلياتها عبر تلك الكتابات!! * هل ترى أن القراءة محرك أو دافع للتغيير في وقتنا الحاضر؟ - سؤال القراءة، والتغيير.. هذا سؤال لا يحتمل اجابة واحدة، ترى هل التغيير بحاجة الى القراءة فقط ليتحقق هذا الحلم الذي تأخر مئات السنين؟! هذا سؤال، مبنياً على سؤال، وهو مشروع، أيضا، أظن ذلك وأنا، من وجهة نظري، فإن القراءة تؤسس لوعي التغيير نعم إنها، مثلما أنها، تؤثر في خيال وعوالم الكاتب، هي ايضا، تعطي حوافز، ودوافع، للمجتمع برمته، لكي ينتقل خطوة الى الأمام. وجاهل من يقول أننا مجتمعات لا تقرأ نحن نقرأ كثيرا،، وعلينا ان نعي هذا، ولا تثبط همتنا قراءات مراكز الابحاث والدراسات المشبوهة بقولها أن: "أمة اقرأ لا تقرأ".. نحن نقرأ.. أقسم أننا كثيرا نقرأ، شيبا وشبابا، وليس بلغتنا فقط، بل بلغة غيرنا ايضا.. لقد تغيرنا كثيرا، مذ عرفنا الخطر المحيط بنا، ذلك أننا إن لم نعرف لغة عدونا/أو صديقنا، فلن تستطع أن نواجه/أو نهادنه، حربا/أو سلما، ولعلنا من الممكن أن نعبر عن هذه الحالة من خلال تلك القراءات أكثرا عن الامبريالية، والشيوعية، والصفوية، والظلامية،..، نقرا عن اشياء كثيرة، لنتلمس من خلالها صافرة انذار، فالخطر محيط، أو تغريدة سلام، فهناك متسع للحياة أيضا، نحن وهم، نحن والآخرون ليكون الكون عامر بالجميع، أليس الهدف الاهي إعمار الكون!! ها أنا أسمع في المقاهي، في الشوارع، في الحافلات، وفي المناسبات العامة، نقاشات، ليست نخبوية، ولكنها تعبر عن متابعة لكل تفاصيل ما يحدث، ومن خلال الكتب، والصحف، والمجلات، والمواقع الالكترونية، انهم ينظرون الى الحياة، وتوقون للتغيير، أكثر من مدعي الثقافة.. ألا يكفي كل هذا لأن نتوقف قليلا، لنقول أننا امام ظاهرة قرائية جديدة؟! هو سؤال مشروع!! ثم هل القراءة الآن عبر الانترنت، والفيس بوك، والفور شاير، وكل تلك الوسائط الحديثة، هي كما تلك التي كانت سابقا من خلال خطيب المسجد، ومعلم الكُتّاب، وأستاذ المدرسة، والأب الموظف، والأم ربة البيت؟! العالم تغيّر، وعلينا أن نحكم على موازين، ومحركات القراءة، من منظور مختلف.. ترى ماذا نريد أن نغير من موازين وقتنا الحاضر؟ هذا سؤال يتوقف عنده القارئ.. هل البديل هو أفضل مما هو عليه الحال الآن؟ سؤال مطروح للنقاش!! أنا كنت رئيسا لاتحاد كتاب الانترنت العرب، وواحد من المؤسسين له في عام 2005م، وبحكم موقعي، وخبرتي، واهتمامي، كنت، وما زلت، اتابع نقاشات الشباب، والجيل القديم والحديث، عبر شبك الإنترنت، وكل أسئلة التغيير تركز على مساحة أكبر من الحرية، والشفافية، والإنسانية، والحوار، والاقناع، وهي ليست معضلة كبيرة، ولا مشكلة معقدة، انها بحاجة الى ثقافة مجتمعية تتقبل ذلك، ووعي سياسي يتخذ القرار لبدء النقاش الجاد، لا أكثر.. وفي ظل هذه المعطيات المهمة، كانت القراءة أيسر السبل، لتحقيق هذا، انها تختصر المسافة بين الأيدولوجيات وصراعاتها، وكذلك تخلق دربا، متفق عليه، بين السلطة والقارئ ليعلم، ويفكر، ويراكم وعيه، الى حين قطاف الديمقراطية المثالية، ليعبر عن رأيه القراءة هدنة الى حين بالنسبة للسياسي، وهي مُرَكّب وعي مه، بالنسبة للمثقف والمبدع، لكنها في النهاية، هي قيمة عليا بالنسبة لمعمار الوطن، وحضارته ومدنيته، وهي فضاءات الفراديس المتخلية، وخيالات العوالم مختلفة، انها الحرية بكل تداعياتها.. انها اسئلة وأجوبة، وكلاهما خير، في المحصلة!