أكتب اليوم عن قضية ٍ شائكة ، طالما شغلت تفكيري ، وهي تستحق بالفعل أن تشغل بال كل مسلم ٍ غيور ٍ على دينه . ألا وهي ما شهدته صورة التدين من تشويه ٍ وتلطيخ ٍ طيلة السنوات العشرين الأخيرة . ففي السابق كان الناس لا يختلفون على احترام من يظهر عليه علامات التدين الخارجي ، من اللحية والثوب القصير والسمت الحسن ، ولا يشوب هذا الاحترام والتبجيل أي شائبة شك ٍ في ما وراء هذا المظهر من خير ٍ أو شر ٍ غير ظاهر . إن مصيبة تشويه صورة المتدين ليست وقفاً على عامل ٍ واحد ٍ من عوامل التشويه، بل تنوعت وتعددت الآفات التي أصابت هذه الصورة حتى وضعتها موضع الشكوك والتهمة، بدل أن كانت وبشكل ٍ مطلق موضع الاحترام والتقدير. كما في السابق كان الإنسان يفرح غاية الفرح حين يظهر هذا التدين على ولده ، ويراه يصحب الشباب المتدينين ، ويرى في ذلك عصمة ً لابنه من كل شر ، وتقريباً له إلى كل خير ، دون أدنى شك ٍ في أن هذا التدين أو مصاحبة هؤلاء المتدينين قد تقود إلى أمور ٍ تستدعي الحذر والحيطة من الوالد . بل حتى في الدول غير الإسلامية لم تكن صورة المتدين تثير أي تساؤلات ٍ أو مخاوف، فهي إن لم تكن تجلب الطمأنينة والاحترام في عيون ونفوس من يقابلون هذا المتدين الملتحي ، فإنها على أقل تقدير لا تبعث على الشك أو الريبة بل هي صورة ٌ معتادة ٌ مقبولة . صورة التدين هذه أصابها الكثير من الأعراض والأمراض ، ولم تعد كما كانت عليه في السابق من احترام ٍ وقبول ٍ مطلق ، بل أصبحت تحتاج إلى مزيد معرفة ٍ بحال هذا الشخص المتدين ظاهرياً ، وهل تديّنه حقيقي يستدعي الاحترام أم ظاهري يخفي بعض صور الانحراف أو الإجرام ؟ وقد يكون تساؤلي هذا وفكرة مقالي جالباً لغضب وانتقاد بعض الناس الذين يظنون أني أستهدف الإساءة للتدين أو أدعو إلى التشكيك في المتدينين، لكني أؤكد بأن هذا ليس مقصدي أبداً، إنما أطرح مشكلة ً يشهد لها الواقع للنقاش ، وأثير التساؤلات حولها سعياً للبحث عن حلول ، أما من ينكر وجود هذه المشكلة أصلاً ، فإنه إما جاهل ٌ أو معاند ٌ لا يريد أن يرى الحقيقة . إن مصيبة تشويه صورة المتدين ليست وقفاً على عامل ٍ واحد ٍ من عوامل التشويه، بل تنوعت وتعددت الآفات التي أصابت هذه الصورة حتى وضعتها موضع الشكوك والتهمة، بدل أن كانت وبشكل ٍ مطلق موضع الاحترام والتقدير. تعالوا نطالع الواقع وما يعج به من أحداث ٍ وأخبار، يكاد يكون القاسم المشترك بين أكثرها، الإساءة للتدين الخارجي أو للإسلام بارتكاب أفعال ٍ إجرامية ٍ يبرأ منها الإسلام ولا يقرها، ويرفضها التدين الحقيقي. يأتي على قائمة هذه القضايا مصيبة ُ العصر، وقضية الزمان ( التطرف والغلو ) فالمتطرف هو من أول من يعتني بمظهر التدين ويتمسك بصورة الإسلام ، بينما يبطن في عقله الكثير من الأفكار الخبيثة ، والآراء العفنة ، التي لا يقرها شرع الله عز وجل ، ولم يأت ِ بها رسوله صلى الله عليه وسلم . وقد سبق أن حذر النبي صلى الله عليه وسلم من أمثال هؤلاء أشد التحذير، وأخبر عليه السلام أن مظاهرهم المتدينة الخادعة لا تجعل منهم أهل حق، ولا تحميهم من عذاب الله، فقال عنهم عليه السلام : " يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة .." . ولا يقل شراً عن التطرف والغلو ، قضية التحزب والانضمام للأحزاب والتنظيمات والجماعات التي تتسمى بالإسلام وتنتسب إليه ، على اختلاف مشاربها وأفكارها، ومدى قربها من حقيقة الإسلام أو بعدها عنه، ذلك أن هذا الشخص الحزبي غالباً ما يكون ولاؤه لحزبه والتنظيم الذي يتبعه، وليس لله ولرسوله وللمؤمنين دون تمييز ٍ إلا بالتقوى . بل وغالب هذه الأحزاب مما يطعن بعضها في بعض، وقد يكفّر بعضها بعضاً ويلعن بعضها بعضا. وهذا الحزبي الذي يعتقد أن الإسلام انحصر في حزبه، وأن سائر المسلمين على ضلال، أيضاً قد يعتني بمظهره الخارجي ويحرص على التدين الخارجي دون أي مراجعة ٍ لمدى صواب ما هو عليه من أفكار ٍ وآراء، وبهذا فأنت قد ترى ذلك الشخص الملتحي قصير الثياب مظهراً للسكينة والتخشع، ولو عرفت ما يؤمن به من أفكار ٍ حزبية ٍ لفررت منه فرارك من المجذوم . هذان النموذجان ( المتطرف الإرهابي ) و ( الحزبي المتعصب ) قد يكونان أقرب إلى أحدنا مما يتصور ، فقد يكون إمام مسجد الحي، أو مدرس الأبناء في المدرسة، أو قريباً تربطك به رابطة الرحم والقرابة، أو غير ذلك . وعلى النطاق المحلي تعالوا بنا نقف قليلاً مع كثرة الأخبار التي أصبحت تطالعنا في السنوات الأخيرة، عن قاض ٍ أو كاتب عدل ٍ تم اكتشاف ُ فساده، وأخذه الرشوة مقابل الإخلال بما أوجبه الله عليه من أمانة العمل في القضاء أو التوثيق، سيما في قضايا الصكوك التي لم تعد تخفى على أحد . وهكذا أيضاً : قضايا توظيف الأموال والمساهمات الكاذبة التي استولى بها مجموعة لصوص ٍ محترفين على أموال الناس، وكانت قبل مدة ٍ قصيرة الشغل الشاغل لأحاديث الناس، قبل أن تتمكن الجهات المختصة من ضبط الكثير منها، وفضحها وإيقاف لصوصها الذين كان القاسم المشترك بين أغلبهم هو ( اللحية والثوب القصير ) لأنهم أدركوا طيبة وتدين المجتمع فعرفوا أن أقصر طريق لانتزاع ثقة الناس هو في هذا التدين الظاهري الكاذب . هذه كلها خبائث وقبائح تشترك جميعها في أن مظهر مرتكبها هو التدين، وكانت كلها عوامل هدم ٍ لاحترام التدين الظاهري في نفوس الناس، وثقتهم شبه المطلقة به. فلم يعد كثير من الناس يشعر بذلك القدر نفسه من الاحترام لمن يقابله ومظهره التدين، كما في الغرب أصبح مظهر المتدين جالباً للشك والريبة والحذر . وأصبح الوالد حين يرى على ولده مظهر التدين يحذر أشد الحذر من أن ينحرف به هذا التدين إلى مزالق ومهالك لا تحمد عاقبتها، فصار الكثير من الآباء يبذلون جهداً مضاعفاً لمتابعة سلوك أبنائهم المتدينين، والتحقق من سلامة هذا التدين . والسؤال الذي يطرحه عنوان هذا المقال : " من يعيد إلى مظهر التدين نقاء صورته، واحترامه في نفوس الناس كما كان في السابق " ؟ إن كل مسلم ٍ متدين ٍ حقيقي يعتبر على ثغر ٍ من ثغور الإسلام يجب عليه أن يبذل غاية جهده في حمايته، والخوف من الله عز وجل أن يؤتى الإسلام، ويساء إلى التدين بسببه، وإذا كان مظهر الإنسان متدينا، وكان من المنتسبين للعلم والدعوة أو شاغلي الوظائف الدينية، فإن الواجب عليه أعظم والمسؤولية أشد، بأن يضع نصب عينيه ما أصاب صورة التدين من إساءات ٍ وتشويه، ويعمل جاهداً على استعادة ثقة الناس واحترامهم لهذا المتدين، ولا يرمي بهذه المسؤولية على غيره وكأنها لا تعنيه. أسأل الله تعالى أن يصلح أحوالنا جميعاً ، وأن يعز دينه ويعلي كلمته ، والحمد لله أولاً وآخرا . ------------------------- *القاضي السابق في ديوان المظالم والمحامي حاليا