كان الحديث في الجزء الأول عن التواصل، والذي بدأ بالرسائل الشفهية ثم تحول إلى الرسائل المكتوبة ومضى على تلك الحالة فترة طويلة من الزمن، حتى لكأن الوضع لن يتغير، وألف الناس تلك الطريقة من المراسلة والتواصل ولم يدر في خلد أحد من الناس أن القادم سيكون مختلفاً اختلافاً كلياً، ولعلنا نستكمل الموضوع حول التواصل بما استجد حوله، كالتواصل عن بُعْد، و أول وسائله والذي بني على العلم والاختراع وبان أثره الكبير في ثقافة وتواصل العالم في هذا المجال وغيره، جاء عن طريق الإذاعة والبث الإذاعي، أي نقل الصوت عبر الأثير من مكان بعيد للإبلاغ عن معلومة وتواصلا حول خبر، ونشرا لرأي وتعميماً لتعليمات. يقول عادي بن رمال رحمه الله في الستينات الهجرية راكب اللي يطوي القاع باعه من عندنا مدت بعلم يبيني لقاف جديد مسجله بالاذاعه التيل مرساله وربي يعيني فاختراع هذه الطريقة ووجود الإذاعة، يعد عملا عجيبا غريبا ومؤثرا أيضا ونقلة متميزة ذات تأثير مهم، وله أبعاده في كل اتجاه، سواء الاتجاه السياسي أو الديني والثقافي أو الاجتماعي أو التجاري أو غيره مما لا يحصر من كثرته وتفرعه. وإذا نظرنا إلى مجتمع وسط الجزيرة وجدناه عاش فترة طويلة بعيدا عن المؤثرات وهو إلى العزلة المفيدة والحماية النافعة أقرب من الاندماج والذوبان في غيره يقول الشاعر خميس الفهيدي رحمه الله البارحه دلت تذيع الروادي جانا خبر قلنا عسى كاتبة خير تلك العزلة الاجتماعية وراءها عدة أسباب أهمها المؤثرات الجغرافية، فكان تواصله بالعالم الخارجي قليلا قياسا بغيره، والحملات التجارية لا تغيب عنا لكن العمل في الرعي و الزراعة هو الغالب وهو من أسباب ملازمة الأرض والبقاء فيها. فمن يا ترى يخاطر ويصل إلى هذا العالم الذي تحيط به المفاوز عبر حلقة مغلقة من جفاف الصحراء؟! لا أحد بالطبع يصل. لا يمكن إلا عن طريق الفضاء، فكانت الإذاعة عبر الأثير والبث عبر الفضاء إحدى الوسائل التي وصلت ونجحت في الوصول، وكانت من الغرائب التي هبطت من فوق ذلك المجتمع إلى أرضه ومن سمائه بين يديه، ودخلت من مدخل لم يخطر على بال أحد من الناس، فبدأ المجتمع يتفحصها ويستفيد منها ويتقبل الكثير مما نفع وحمل فائدة، ويرفض شيئا منها أيضا، وينفر منه ويستغربه ويقاومه ويتمنى احدهم انه لم يحضر هذا الوقت الذي فيه الحدث الغريب فكان ينظر له حينا بعين غير راضية، ويطلب ممن يشتريه أن لا يسمع من حوله من الجيران صوته، وأن يخفضه على قدر حاجته، ولو سمع من خارج المنزل فإنهم يطرقون الباب ويطلب من صاحب البيت تخفيض الصوت. سليمان بن حاذور، يقول احد الشعراء ياللّه يا غافر الزلاّت يا للّه من النار تنجيني هيهات من يعتبر هيهات ماتوا هل الصدق والديني شفت الروادو مع الشنطات حطّن بصدر الدواويني يا ليت من هو قديم مات والكيف ما شافته..عيني النقص بيّن وله شارا ت كثروا جنود..المغنيني وكان من أوائل الأصوات الإذاعية الشخصية والجهود الفردية غير المؤسسية التي صار لها مستمع ، ومهتم بما يطرح عبر الأثير: صوت عبدالله العويد الطامي، من خلال إذاعة قام بتجهيزها وتجميع أجهزتها بنفسه والتي صار لها حضورها الاجتماعي في حينه سميت (إذاعة طامي) وكان لها أثرها الفعال لسببين: الأول: افتقار الوسط الاجتماعي لمثلها وخلو الساحة من وسائل جذب مماثلة أو شبيهة للإذاعة، جديدة غريبة تأتي بالعجيب، في وقت يوجد رغبة في قضاء وقت الفراغ فيما يفيد ورغبة في التواصل على مستوى أوسع. وأما السبب الآخر: تقديمها مواد تتوافق مع رغبة المجتمع مستمدة من ثقافته، محلية أيضا يسهل التعرف على مضامينها وينتظر جديدها اليومي الذي يقوم بإعداده ونشره :الطامي بنفسه قائما بكل الأدوار وبث باشر. بالإضافة إلى أسباب تعد ثانوية يمكن التوصل لها من خلال رؤية عامة للمجتمع وظروفه وما يطمح إليه. هذه كانت بعض مسببات شهرتها رغم قلة امكاناتها، وقبول ما تبثه ولو كان في مجمله بسيطا، ولقد كانت تصل من دول الوطن العربي المجاورة أصوات إذاعات أخرى، وأيضا من خارج الوطن العربي كإذاعة لندن، و غالب موادها أيضا ذات هدف تثقيفي وتسلية وأخبار عامة عالمية ويتخلل البرامج بعض الأغاني والموسيقى ضم جهاز الراديو إلى وسائل اللهو يقول الشاعر محمد بن عطيه السميري رحمه الله تعالى حطيت لي رادي بدال المسايير ابقى تلهى فيه وانسا همومي كني رهين الحبس ياخاتمة خير لعطي علوم ولاتجيني علومي وفي لقاء لخالد المشيطي في هذه الجريدة عام 1425ه يقول عن إذاعة طامي (عبدالله بن سليمان بن عويد الطامي.. ولد سنة (1341ه) في مدينة بريدة ونشأ أول حياته فيها ثم سافر إلى الرياض لطلب الرزق مع إخوانه.. درس في الكتاتيب ويجيد اللغة الإنجليزية.. حارب مع الجيش السوري ضد فرنسا وعاش في سوريا جزءاً من حياته.. عرف بأنه أول من أنشأ إذاعة في المنطقة الوسطى سنة (1380ه) وكانت خاصة عرفت باسم (إذاعة طامي) يصل بثها إلى الأردنوالعراقوسوريا، توفي سنة (1421ه) ) انتهى. نحن إذاً وفي تلك الفترة الصامتة المعزولة، وفي زمن بعيد بالنسبة لنا عن أي مخترع بسيط فضلا عن المعقد، أمام تجربة مذهلة في مجال التواصل، حتى ولو كانت تتحدد في تجميع أجهزة وتحويلها من جهاز لاستماع إلى جهاز اسمع وتكلم، وهي ما هدف إليه عبد الله الطامي، مخترع الجهاز الإذاعي في وقته، ويهمنا من ذلك الصوت في الثمانينيات الهجرية أي منذ قرابة 60 سنة، أنه وسيلة جديدة من وسائل التواصل الاجتماعي، ويمكن وصفه بأنه تواصل عن بعد، ونعتبره حضور شيء مستجد سيكون له تبعاته الإيجابية والسلبية أيضا. ولهذا قال الشاعر سليمان بن حاذور يمدح طامي وإذاعته: ياليت طامي مافتح له إذاعة ولا شغف بعض المخاليق بغناه غطى على صوت العرب باستماعه كلٍ يدور موجته لين يلقاه كان تعبيرا مباشرا يمدح فيه إذاعة طامي وهي من أول أجهزة التواصل عن بعد في المجتمع المحلي. وكانت مدتها قصيرة نسبيا، وفي الوقت نفسه مدة كافية لتثبت إصراره على إيجاد شيء مختلف يخاطب المجتمع ويصل إليه بشكل حديث ويعمل على التواصل و اطلاعه على ما يجري في محيطه ويكشف له ما حوله. لقد كانت مدتها تقريبا أربع سنوات من عام 1380ه وهو العام الذي قدم فيه طامي من القصيم إلى الرياض. يخبرنا بعضهم بأن هذه الإذاعة زيادة على كونها مهمة في وقتها إلا أنها أعجوبة زمانها، فقد بهرت الكثيرين كونها تنقل المعلومة عبر الأثير وتلك المعلومة تهمهم لأنها مستقاة من المجتمع نفسه ومستمدة منه وهذا هو المهم لدى المجتمع، فقد كانت إذاعة محلية بكل تفاصيلها وموادها وإن كانت فترة بثها قصيرة نسبيا ( 3 ساعات ) إلا أن المجتمع لا يريد سوى ساعة واحدة، فليس لديه الوقت لأن يبقى أمام جهاز يستمع طيلة النهار، فلديه أعمال كثيرة يستحيل معها البقاء وقد تعود المجتمع على تلقي ساعة بث وسط النهار من إذاعات بعيدة عن بيئتهم سواء من مصر أو العراق أو غيرهما وتلك تبث برامج وأخبار خارجة عن بيئتهم وليس فيها شيء من المحلية، فصار لإذاعة طامي تميزها عن أي إذاعة يمكن التقاطها من بعيد فكان المجتمع في الثمانينات الهجرية وما قبلها بقليل أيضا يكتفي بفترة استماع بسيطة من عدة إذاعات لا تتجاوز الساعة أو الساعتين ، وتكون في وسط النهار أو بعد المغرب، يأخذون أخبار العالم سريعا ويستمعون لمقتطفات مسلية فيضبطون مواعيدها كبرنامج البادية وبرامج التوعية والكلمات الإرشادية، ويسمعون آخر الأخبار المحلية والعالمية التي تؤثر في محيطهم، ثم ينامون ليلهم كله استعدادا لعمل يوم جديد. إلى هنا والوضع مناسب لهم ويتناسب مع حياتهم البسيطة ولا يفكرون في أكثر من هذا التواصل الذي هو من طرف واحد، فالإذاعة تعطي المعلومة و الخبر ولا تستمع للرد كما أنها لا تجيب على تساؤل واستفسار مباشر.