الاختلاف بين البشر أمر طبيعي، ولكن من دون تصنيف أو إقصاء لأحد مهما كانت المبررات، ودرجة الاختلاف أو الخلاف، وهو ما يؤسس لمنهج الاعتدال في الفكر والسلوك معاً، ويعزز من مظاهر الانفتاح، والتحول إلى مجتمع مبادئ في مواقفه، وقيم في ثقافته، ومساواة في حقوقه، واحترام في حواره، وتقدير فيما تبقى من تفاصيل مواجهته مع الآخر.. هذا ما يفترض أن يكون، ولكن ما هو كائن شيء آخر، فالتصنيف الفكري لا يزال قائما، وحاكما، ومفلترا للأفكار والتوجهات المجتمعية، وبالتالي أصبح هناك أحكام مسبقة على الآخرين، وخروج متكرر عن النص، والنهاية (أنصفني ولا تُصنِّفني). التصنيف الفكري لا يزال «مفلتراً» للأفكار والتوجهات المجتمعية وإصدار أحكام مسبقة على الآخرين مشكلة مجتمعية وأوضح "د. علي بن محمد الخشيبان" -كاتب صحفي، ومحلل سياسي- أنَّ فكرة تشكّل التصنيف تُعدُّ إحدى أهم المشكلات المجتمعية في تركيبة أيّ مجتمع، مُشيراً إلى أنَّ من آثارها المباشرة والدقيقة أنَّها تفرض حدوداً فكرية مفتعلة بين الأفراد في المجتمع، مُبيِّناً أنَّ ذلك يجعل المجتمع عبارة عن مجموعات فكرية متنافسة فيما بينها من حيث ادعاء الحقيقة وفهم الواقع، مُضيفاً أنَّ هذا هو خطأ كبير على المجتمعات، لافتاً إلى أنَّ التركيب الطبيعي لأيّ مجتمع يجب أن يكون قابلاً للتنوّع ومرتكزاً على قيم أصيلة يجتمع عليها الجميع. وأضاف أنَّ ذلك لا يعني بالضرورة أن يكون المجتمع كله كتلة فكرية واحدة، ولكنَّه يعني أنَّ المجتمع يجب أن يكون له قيم أساسية تشكل أركانه، مع ترك الحرية للأفراد في كيفية التعاطي معها، شريطة عدم الإخلال بها، موضحاً أنَّ لدينا في مجتمعنا قيما أصيلة مرتبطة بوحدة الدين والوطن والمنهج السياسي المُتّفق عليه من الجميع، مؤكداً على أنَّ هذه القيم كفيلة بخلق مجتمع متناغم متسق في أفكاره وثقافته، مُبيِّناً أنَّ ما يجب أن نرفضه هو فكرة التصنيف استناداً على الرؤية الفكرية التي يعتنقها كل منَّا. قيم أصيلة وأشار "د. الخشيبان" إلى أنَّ الأمر المرفوض هو الخروج على قيم المجتمع الأصيلة، كما أنَّ المطلوب هو منح الجميع المساحة المناسبة في ثقافة المجتمع وفكره دون تصنيف يساهم في خلق الفواصل والحواجز الفكرية في المجتمع، مؤكداً على أنَّ التصنيف يُعدُّ خطرا مجتمعيا يساهم في إرباك البنية المجتمعية، وبالتالي يفقد الكثير من الأفراد الاتجاه الصحيح في معرفة الحقائق، ويُكرِّس النزاعات الفكرية والثقافية، كما أنَّ التصنيف يُساهم أيضاً في وضع الفرد في مواقع فكرية وثقافية غير دقيقة وصحيحة. وبيَّن أنَّ التصنيف فكرة هدفها الأخير الإضرار بالمجتمع وتقويض قوته الفكرية والثقافية، كما أنَّه يضع الفرد فكرياً وثقافياً في مربع محدد، حيث يتم الإشارة إليه على أنَّه ضد المجتمع أو ضد الثقافة أو حتى ضد التراث، وهنا تكمن الخطورة في هذا الجانب، داعياً إلى البحث عن تاريخ هذا التصنيف، وعمَّن ساهم في وجوده في المجتمع، لافتاً إلى أنَّ فكرة التصنيف انتشرت خلال العقود الثلاثة الماضية مع ظهور الفكر الصحوي، خصوصاً جانبه المتطرف، وذلك بهدف التضييق على كل من يختلف مع الفكر الصحوي ونبذه مجتمعياً. منهج متطرّف وأكَّد "د. الخشيبان" على أنَّ المنهج المتطرف في الظاهرة الصحوية نجح في خلق ظاهرة التصنيف في المجتمع تحت بند تصفية الخصوم، وهنا يجب أن نعترف أنَّ مجتمعنا لم يكن يعرف فكرة التصنيف في الماضي قبل ظهور التطرف والتشدّد الذي صاحب ظهور الفكر الصحوي، لافتاً إلى أنَّنا ما نزال نعاني من بعض أفكار التصنيف ودعواته التي ساهمت في خلق إشكالات فكرية وثقافية في المجتمع، مُشدِّداً على ضرورة محاربة هذه الظاهرة من خلال المساهمة الجدية في مناقشتها وبيان آثارها المجتمعية في كل محفل وموقع ثقافي وفكري. د. ناصر الحجيلان انتماءات فكرية وأشار "ناصر الحجيلان" –كاتب- إلى حديث خادم الحرمين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله- في كلمته التي وجهها لأهالي القصيم في العام (2006م)، مُضيفاً أنَّها كانت رداً واضحاً على بعض من يستهويهم تصنيف المجتمع السعودي بحسب انتماءاتهم الفكرية، مُبيِّناً أنَّه قال -رعاه الله- في كلمته :"إنَّه لا يتناسب مع قواعد الشريعة السمحة أن يقوم البعض بجهل أو بسوء نيّة بتقسيم المواطنين إلى تصنيفات لم ينزل الله بها من سلطان، فهذا علماني وهذا ليبرالي وهذا منافق وهذا إسلامي متطرف وغيرها من التسميات". ولفت إلى أنَّ خادم الحرمين –أيَّده الله- أشار في كلمته تلك إلى ثلاث قضايا، فالقضية الأولى هي أنَّ الأساس الذي نعتمد عليه هو الشريعة الإسلامية التي تتطلب أن يكون الحكم على الناس مبنياً على العدل، وما يتطلبه ذلك من التثبت من أيّ معلومة تنسب للناس وفحصها قبل قبولها، كما أنَّ القضية الثانية هي أنَّ سبب التصنيفات التي يمارسها البعض إمَّا أن تكون صادرة عن جهل أو عن سوء نية، والجهل هو الأخذ عن مصادر غير دقيقة والاعتماد على المعلومات دون تمحيص. صورة سلبية وأضاف "الحجيلان" أنَّ سوء النية فيه إشارة إلى من لديهم مذاهب سياسية وفكرية يهمها تصنيف الناس وفق أنماط معينة، وقد تستفيد من توزيع الناس في خنادق متباعدة بخلق خصومات بينهم تكون مأخوذة أصلاً من الخصام المفترض بين التصنيفات نفسها، موضحاً أنَّ القضية الثالثة هي أنَّ التصنيفات المستخدمة هي علماني وليبرالي ومنافق وإسلامي متطرف، وهذه تصنيفات تسعى إلى تكوين صورة سلبية عن بعض الناس ومحاربتهم من خلالها، مؤكداً على أنَّ التصنيف الفكري للناس أصبح ظاهرة بدأت تنتشر في المجتمع وتأخذ حيزاً واسعاً من اهتمام الناس. وقال: "أصبح من المعتاد اليوم أن نسمع شخصاً يرفض التعاطف مع أحد الأشخاص الذي حصل له ولعائلته حادث مروري، بحجة أنَّه ينتمي إلى تصنيف معين وأنَّه يستحق هذه العقوبة التي جاءت نتيجة لدعاء النَّاس عليه، مع العلم أنَّ التصنيف نفسه مشكوك فيه؛ لأنَّه يرتكز على التخمين أو الحدس أو ربما النقل من مصادر غير موثوقة"، لافتاً إلى أنَّه نتج عن هذا التصنيف نتائج سلبية على المستويين الاجتماعي والوظيفي. د. محمد السعدي تنوّع فكري وأوضح "د. محمد إبراهيم السعدي" -أستاذ أصول الفقه بجامعة أم القرى- أنَّ التنوّع الفكري للبشر أمر طبيعي لا يمكن الانفكاك منه أو إنكاره أو التغاضي عنه، مُشيراً إلى أنَّ الناس -منذ خُلِقُوا- وحتى اليوم لهم أجناس وأديان ومذاهب وملل ونحل وتصورات ورؤى لا يمكن أن تتفق، ولذلك قال الله –سبحانه وتعالى- :"ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين، إَّلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين". وأكَّد على أنَّ الإنسان حينما يختار لنفسه منهجاً، فإنَّ ذلك لا يُعدُّ عيباً ولا حرجاً في نسبته لهذا المنهج الذي اختاره لنفسه، موضحاً أنَّ من اختار أن يكون سلفياً أو صوفياً أو شيعياً أو ليبرالياً أو ماركسياً فإنَّه لا حرج في نسبته للمنهج الذي اختاره، فيُقال: "ليبرالي وماركسي وشيعي وسلفي وصوفي"، مُشيراً إلى أنَّ تصنيف النَّاس بقصد إقصائهم وتحذير الغير منهم لمجرد الشك أو التشفي نتيجة اختلافنا معهم في جزئية معينة، يُعدّ من اللمز ومن إحداث الفرقة بين الناس ومن القول عليهم بلا علم. وأضاف أنَّ ذلك يُعدُّ أيضاً من صفات الكافرين (هماز مشاء بنميم)، كما أنَّه من الفجور في الخصومة التي هي من صفات المنافقين "وإذا خاصم فجر"، لافتاً إلى أنَّ ذلك يظهر كثيراً في وصم بعض الكتاب وبعض الدعاة بأنَّهم تكفيريون أو "داعشيون"، لمجرد الاختلاف معهم في بعض الجزئيات، إلى جانب وصم بعض ناشطي المواقع الإلكترونية وبعض كُتَّاب الصحافة بأنَّهم "ليبراليون"، لمجرد الاختلاف معهم أيضاً في بعض المواقف، مؤكداً على أنَّ هذا ليس من العدل بالقول الذي أمر الله –سبحانه وتعالى- به. بيِّنات قاطعة وبيَّن "د. السعدي" أنَّ هناك من يتستر تحت زيّ توجه معين ليروج بعض أفكاره التي لو كُشِفَت للنَّاس حقيقته لم يتقبلوا أفكاره ولم تنطلِ عليهم، مُشيراً إلى أنَّ من هؤلاء بعض عملاء المد الإيراني ممَّن يتسترون بالانتساب إلى أهل السنة، بينما هدفهم هو تفريق جماعة السنة وإحداث الشقاق بينهم، أو كمن يتصنعون الوطنية أو التديُّن لكي يُحدثوا الشقاق بين الحكام والمواطنين، أو كبعض "الليبراليين" الحقيقيين الذين يُخفون توجههم لكي يستطيعوا تمرير أفكارهم عن طريق نسبتها للدين. وشدَّد على ضرورة بيان حقيقة هذه الأصناف وكشفها للناس، ولكن بشروط، منها أن يتولى ذلك صاحب اختصاص، وأن يكون ذلك الكشف بعد مناصحة ومكاشفة، وأن يكون هذا الكشف ببيِّنات قاطعة وليس مجرد أوهام وانطباعات، مُشيراً إلى أنَّ من اتهم أحداً دون توفر هذه الشروط، فهو مستحق للعقوبة الشرعية حال مطالبة الطرف الآخر بذلك. د. أحمد القاضي تحطيم العلاقات وقال "د. أحمد القاضي" -مستشار اجتماعي، وحقوقي- :"إنَّ الحكم على النَّاس وتصنيفهم أمر غير مقبول لا دينياً ولا اجتماعياً، والمظهر لا يدل على الجوهر"، مُضيفاً أنَّ النبي الكريم –صلى الله عليه وسلم- أشار إلى قلبه حين قال: "التقوى هاهنا"، مُشيراً إلى أنَّ المظاهر لا تعني في سبيل تصنيف الآخرين، سواء في الطرح أو الفكرة، موضحاً أنَّ التعامل يبقى هو المحك الحقيقي للحكم على الآخرين بأخلاقياتهم وفكرهم، مؤكداً على أنَّ مثل هذا التصنيف يُحطِّم العلاقات الإنسانية والأسرية. وأضاف أنَّه من المفترض أن نغرس في أبنائنا مفهوم أنَّ المظهر لا يُعدُّ المقياس الحقيقي للحكم على الآخرين، على اعتبار أنَّ الدين الإسلامي يحثنا على أن نحب للآخرين ما نتمناه لأنفسنا، مُشيراً إلى أنَّه متى ما وصلنا لهذا النوع من السمو الأخلاقي، فإنَّنا لن نُفرق بين النَّاس بمظهرهم، مؤكداً على أنَّ المظهر هو الذي عطَّل عجلة التنمية، كما أنَّه عطَّل الكثير من الأطروحات العلمية المميزة لأشخاص مميزين فضَّلوا أن يبقوا بعيدين عن الساحة من أجل الابتعاد عن التصنيف.