لم يرتبط كتابٌ بالليل كما ارتبط كتاب ألف ليلة وليلة، فالمتع تقترن، غالبا، بالليل، فهو فضاؤها. الظلام حاجب للمتع أما الضوء فكاشف عنها، وفي مجتمعات تتستّر على متعها فلا أفضل من الليل وقتا لممارستها، والجهر بها، وغالب المرويات الخرافية تجعل من الليل وقتا للمتع التي لا ينبغي أن يخدشها ضوء النهار، فلا عجب أن تعقل شهرزاد لسانها فجرا عن رواية الحكايات الممتعة، وتذهب للنوم طوال النهار لتستأنف علاجها في الليل. ليس لشهرزاد عمل طوال النهار؛ فالأرجح أن تخلد إلى النوم بانتظار الليل، أما شهريار فينصرف إلى الحكم مع أول النهار، ويسارع ليلا يسمع كل عجيب وغريب تتفوّه به الملكة. على أنه لم يعترف ملك بمرض جهارا، ناهيك عن شهريار الذي يجد في مرضه شرفا يعاقب به جنسا خائنا، إذ يتكتّم الملوك على عاهاتهم، ويتستّرون، ويطيلون من أعمار حكمهم غير معترفين بعارض صحي إلا ما ندر. والحال هذه، فلم يجرؤ أحد على التصريح بمرض شهريار إلا شهرزاد التي اعتبرته وباء عاما سينهي عذارى المملكة، ولا بد من اجتراح ذريعة لوقف ذلك، فانتدبت نفسها للزواج من الملك لا لكي تصبح ملكة إنما لتعالج مهووسا شمل ضرره قلب المملكة وثغورها. وجعلت من سريرها عيادة ترعى فوقه مريضا لازمته عاهة قديمة تعود إلى عصر آدم. لم يعرف شهريار بخطة شهرزاد، فقد خدع ملتذا بتلك الحكاية الشائقة التي جعلته يتريّث فيما اعتاد عليه، فأرجأ وأدها إلى الليلة الموالية حرصا على معرفة نهاية الحكاية، وفيها أرجأت شهرزاد النهاية المنتظرة أيضا، وبانتظار أن يعرف شهريار نهاية الحكاية انفتح أفق الترقّب لديه، فيما رسخت شهرزاد من وجودها بحكايات تعمّدت ألا تنتهي قبل تحقيق هدفها، فجعلت من الليل نافذة للمرح والعجب والدهشة، وذلك ما كان يحتاج إليه شهريار. أخفى الليل حال الملك عن أتباعه، فلايجوز أن يتسرّى تحت أنظار المحكومين، فمضت شهرزاد في تزويده بجرع العلاج حكاية بعد أخرى. كانت الليالي الأولى مشحونة بحكايات تستجيب لتوقّعاته، فاستطابها لما أحدثته في نفسه من دهشة وارتياح، لكنها أسقطته أسيرا تحت تأثير سحرها، فما انفكّت تغذّيه بكلّ ما تظن أنه يرغب فيه وينتظره، فتأجّل قرار القتل بالتوازي مع قرار إرجاء نهاية الحكايات، ولمّا كانت نهايتها مرتبطة بهدف فقد انحسر قرار القتل، وتوارى، وأنقلب إلى ضدّه بعد مرور ألف ليلة وليلة. غايات كتاب ألف ليلة وليلة كثيرة، وقد دُسّت في تضاعيف خرافاته، لكن الهدف الاعتباري الرئيس فيه تشخيص حال شبه مستعصية جرى علاجها بصبر طويل. ليس الكتاب، بأي شكل من الأشكال كتاب علاج، إنما يؤدي وظيفة علاجية بالتمثيل السردي لأحوال ملك مرّ بتجربة غدر مريعة مع زوجته، فجعل من تلك التجربة مثالا مطلقا للهلع من غدر النساء عامة، فاستبق ذلك بقتلهن. وكان الشفاء ممتعا لكنه طويل وصعب، فإن يمضي الملك ألف ليلة وليلة يقظا بانتظار نهاية لا يتوقّعها يوازي الجهد المبذول في دسّ علاج سريّ في ثنايا حكايات لا يظهر منها إلا التسلية والترويح عن نفس مستبدٍّ انغلق على نفسه وعالمه. من الصحيح أن الكتاب يعرض تجربة يمتزج فيها سعي المريض للانتقام السريع، ورغبة المعالج في توفير الوقت لتحقيق الشفاء. ولن يحلّ هذا الخلاف الابتدائي إلا باقتراح من طرف شهرزاد، وهو التأجيل المتواصل لنهاية الحكايات، وتوزيعها على ألف ليلة وليلة، وبهذه الحيلة السردية جرى كبح تعجّل شهريار الذي كان بحاجة إلى ضحية ليلية يختم بها يومه، فلا هو يرتوي من حكم ولا من متعة. والحال هذه، فتعطّش شهريار إلى الحكم والمتعة إنما هو تمثيل مجازي لاستبداد الملوك في القرون الوسطى، إذ يغيب المجال العام بتفاصيله، ويتمركز الحدث الرئيس حول حكم الملوك وحروبهم وحريمهم، ولكن تخفى النوازع النفسية وراء كل ذلك. لم تكن مهمّة شهرزاد يسيرة، فقد وغل شهريار في دماء العذارى، وبالغ في القتل، وغمره شعور بدنس المرأة، فعلامة طهرها لديه هي العذرية، وزوالها يشرع أفقا للخيانة ينبغي سدّه بالقتل. لذا قررت شهرزاد تقديم عالم افتراضي يوازي عالم شهريار، وما لبثت أن لفتت انتباهه، في الليلة الأولى، إلى أن ذلك العالم لا يقل أهمية عن عالمه، فبالمقارنة مع عالم النهار الرتيب الذي يمضيه الملك على كرسي الحكم، يبدو عالم الليل مختلفا في كلّ شيء. وبمرور الليالي توارت أهمية العالم الأول، واستاثر الثاني بالإهتمام، فهو مركز السرد وموضوعه. سهرت شهرزاد على بناء العالم الافتراضي ليكون موازيا للمملكة التي يحكمها شهريار نهارا، لكنه أكثر جذبا ومتعة وتنوعا، فقد اطلقت العنان للشخصيات لأن ترتحل فيه بحثا عن جاه أو متعة. ومعلوم بأن الجّاه والمتعة هما الشاغلان الأساسيان في عالم شهريار، وهما الناظمان لرؤيته للعالم. قدّمت شهرزاد حكايات تمثيلية اعتبارية كشفت للملك بالتدريج عالما خياليا مناظرا لعالمه تريد به تأسيس الثقة بينهما، عالم ضاج بالدهشة، والعشق، والارتحال، فيما كان قصره يخلو من كل ذلك، فلا عجب أن يجد الملك ضالّته في سرد تذود فيه شهرزاد عن نفسها فيه علنا لكنها تبثّ سرّا عِبرا متواصلة تفضح جهل الملك بالعالم خارج القصر، وبإزاء رتابة القصر الملكي يبدو عالم شهرزاد جذابا ومثيرا ومملوءا بالحركة والمغامرات. وليس ينبغي مقارنة شهريار بأي متلقّ في السرود الخرافية، فهو النموذج الأعلى، إذ أصاخ السمع لثلاث سنوات، فتبدّلت حاله من قاتل إلى مانح للحياة. وهذا يطرح على بساط البحث السؤال الصريح الآتي: هل مَنْ يروي هو الذي يجب أن يتغير أم ذلك الذي يصغي؟ لم ينبثق الاهتمام، في حدود علمنا، بالبحث في موضوع تغيير وجهة نظر الراوي في الحكايات الخرافية، لأنه يقوم بمهمة تمثيل لصاحب المعرفة والتجربة التي ينبغي لها أن تجري تغييرا في مَنْ تروى له، فالمروي له هو الذي ينبغي عليه التغيير لا الراوي، وذلك هو أحد تجلّيات الثقافات الشفوية القائمة على الإرسال والتلقّي المباشرين، ولهذا أصاخ شهريار لشهرزاد، وبموافقته على إبرام عقد الإصغاء فقد وقع تحت تأثير مروياتها معتقدا بأنه يتسلّى فيما كانت هي تمارس العلاج، وراح يتغاضى، يوما إثر يوم، عن قراره، فلم يمض في ممارسة القتل. على أن كل ذلك فرض وضعا جديدا لم يدركه شهريار؛ ففي عالم النهار كان هو مرسلا باعتباره ملكا، فيما جعله عالم الليل متلقيّا. وبعبارة أخرى فقد أصبح الملك مملوكا. ولا يمكن وصف جفاف عالم النهار إلا في ضوء مواظبة شهريار على الارتحال في عالم الليل الذي تحوكه شهرزاد. إن لهفته في أن يمضي وقته مصغيا لخرافات شهرزاد الليلية فضحت رتابة عالم النهار. غلب الليلُ النهارَ، وقع ترجيح لصالح عالم السرد على حساب عالم الواقع. والاستجابة التي أبداها شهريار لشروط العالم الجديد مبعثها شعوره التدريجي بالشفاء، إذ قاده الارتياح لاستعذاب مرويات شهرزاد العلاجية. إن الخيال العجيب، والأفعال غير المحتملة، والمصائر الفاجعة في الحكاية الخرافية لن تخفي الهدف الاعتباري لمضامينها، وتفسير ذلك، فيما نرجّح، يعود إلى أنها مرويات جماعية جرى تعديل دلالالتها العامة بالمشافهة إلى أن استقامت شكلا مرنا يطمر معنى متواريا تحت سلسلة متضافرة من الأحداث المثيرة، والمغامرات العجيبة، وبذلك فهي تستجيب لحاجات التلقّي حيثما تروى. وبالإجمال، فقد أدّت الحكاية الخرافية وظيفة ترويحية لمجتمعات ما انفكّت تعيش أزمات صعبة في حياتها، فكانت تطهّر نفسها بالإصغاء لمرويات تقترح عليها حلولا غير متوقّعة تتلهّى بها من انتظار حلول لن تأتي، فلا غرابة أن تندرج فيها السخرية، والسخط، والإستياء من العالم الواقعي. وقد امتثلت خرافات ألف ليلة وليلة لهذا النسق الوظيفي، وتضافرت فيما بينها لانتزاع ملك من شكوك مرضية كانت في سبيلها لقطع دابر النساء في مملكة مترامية الأطراف. كان شهريار مثالا لكل رجل يرى في المرأة كائنا معطوبا وقابلا للخيانة، ومعالجته إنما هو علاج لسائر الرجال الذين يشاركونه المرض نفسه.