صناعة الأمل تبدأ من مشروع يجعل الناس شركاء في إدارة حياتهم ومواجهة مستقبلهم عبر مؤسسات قادرة على تحمل المسؤولية، ولها صفة الإلزام والرقابة والمحاسبة.. عندها يمكن الاطمئنان إلى أننا بدأنا الخطوة الأولى في مسار الإصلاح الطويل بين من يصنع الخوف ومن يصنع الأمل مسافات بعيدة. الأول يعطل القدرات الايجابية ويراكم الأسى ويدفع إلى ما هو أبشع من الخوف. والآخر يصنع الحياة ويعمر الارض وينشر الدوافع الايجابية لمزيد من النمو والترقي وتجاوز العثرات. إلا ان صناعة الامل، ليست مجرد دعوات طيبة وأماني عراض وانتظار للمعجزات. صناعة الأمل تبدأ من فكرة وتتحول إلى مشروع وتؤتي ثمرتها قيمة يتفيأ الانسان خيرها وعطاءها. يهمني هذا الجيل الذي يتفتح ادراكه على تحديات كبرى.. فهو يرى عالما يحيط به يثير القلق وينشر اليأس وهو يوالي سلبية التداعيات. حديث المجالس ليس كله لغوا، وحتى بعض اللغو فيه هروب من مواجهة أسئلة الواقع المرة. هناك حالة لا يمكن اخفاؤها من القلق، وهناك حيرة في فهم أو تصور أو اكتشاف ملامح مستقبل محاط بكثير من الغموض والمخاوف. استحقاقات هذا الجيل والاجيال القادمة تبدو لكثيرين في علم الغيب.. على الرغم من أن الحياة علم شهادة واستشراف مستقبل واحتياطات لا بد من الاقتراب منها ومواجهتها والعمل من اجلها استلهاما وإقبالا أو تحوطا واعراضا. من الجميل ان يكون الانسان متفائلا مغمورا بالبشر والرضا والايمان.. إلا ان هذا لن يجعل الواقع أجمل، ولن يرسم ملامح مستقبل أفضل، ولن يسد الثغرات التي يتسرب منها الخوف والقلق. صناعة الأمل، تبدأ من عقل يدرك بواعث المخاوف.. ويدرك وقائع البؤس والاضطراب في الحياة، ليشرع في تلافي الوقوع قدر الامكان في شرور الاختناقات والازمات من خلال خطط لها قابلية التنفيذ ولها ملامح الحلول ولها قيمة التراكم في مسار لا يعرف التوقف أو التأجيل أو الانتظار. وهذا ليس عنوانا او شعارا جميلا.. إنه المبدأ المجُرب والاسلوب الانجح الذي مارسه الانسان منذ عصور بعيدة بطرق مختلفة وفي بيئات مختلفة.. وتعمل به اليوم وغدا شعوب وحكومات تحقق نجاحات، وتتجاوز به صعوبات، ليضيف جيلا بعد جيل ملامح الازدهار، لا الخراب أو العطالة أو الانتظار القاتل. ومن أكبر التحديات التي تواجهنا في بلادنا، هذا الاعتماد الكبير على سلعة وحيدة لم نبذل جهدا حقيقيا في صناعتها، إنها هبة الله في أرض الجفاف والصحراء. جاء النفط ليغير ملامح الحياة في بلادنا.. ولكنه ايضا كان التحدي الاكبر في مواجهة مستقبل بلا نفط أو مستقبل يتعرض فيه هذا المصدر لتراجع في السعر او القدرة ليتحول ربما بعد عقود الى مصدر ثانوي للطاقة او غيرها من الاحتمالات التي مازالت في رحم الاكتشاف والبحث والتطوير. ومنذ أكثر من أربعين عاما ومنذ أول خطة تنموية في عام 1970، التي صك فيها مصطلح تنويع مصادر الدخل.. لم تسفر السنوات الأربعون سوى مزيد من الاعتماد على هذا المصدر.. بل حتى اسعاره اذا ما تعرضت للاهتزاز أو التراجع الكبير كما حدث في الثمانينيات.. تهتز لها خطط التنمية ومشروعاتها.. فالاعتماد الكبير على رصيد مهما بلغ فهو إلى استنزاف وتقلص وانكماش. اليوم نستهلك محليا ما يقارب 25% من انتاج هذا المصدر داخليا في انتاج الطاقة وتسير المركبات والصناعات.. رقم مخيف ومعرض للارتفاع سنويا والمصادر الاخرى للدخل كلها تعتمد على دخل الدولة من النفط بشكل أو بآخر.. والعملية الانتاجية خارج دائرة النفط وصناعته ومشتقاته والمرتبطة بمنتجاته مازالت تحبو ولن تحقق في المستقبل المنظور عائدا يعتد به او يمكن الاعتماد عليه. وتأتي خطة التنمية الجديدة في هذا العام، لتؤكد على عنوان براق وهو "صناعة المعرفة" باعتبارها مشروعا لتطوير وتعزيز وتنويع مصادر الدخل القومي، فهو عنوان مثير وجميل أكثر منه يجسد مشروعا محكما ويعتمد مراحل محسوبة وتقويما مستمرا.. إنه مازال مشروعا قد لا يصمد امام تغير معدلات الانفاق أو الواقع الصناعي المعرفي ومشكلاته وشروطه الاكثر من معقدة. ولأن الدولة الراعية توزع دخلها على قطاعات تجلب معها في حالة الوفرة الوظيفة، وتختنق حال القلة أو التحوط.. ولأن المال العام شريك للخاص بل هو المحرض له في التوسع والانتاج.. لذا نرى ان كل تراجع او تحوط في الانفاق سيترتب عليه مزيد من البطالة. هذا العلاقات يمكن صياغتها بشبكة مترابطة لا يمكن فصلها عن بعضها طالما كان الاعتماد على مصدر واحد عرضة لعوامل العرض والطلب اقتصاديا وعرضة لعوامل سياسية ضاغطة وعرضة لتطورات واكتشافات علمية قد تجعله مصدرا اقل تأثيرا في المستقبل. لم نعد مجتمعا رعويا او زراعيا صغيرا وبسيطا يعيش على ضفاف مصادر مياه عدا عليها الزمن، واصبحت غورا، بعد أن استهلكتها زراعة القمح والاعلاف ومزارع الالبان التي تصدر مياهنا للخارج.. لقد اصبحنا مجتمعا مليونيا عدد سكانه يفوق عشرين مليونا يعيشون بشكل او بآخر على عوائد مصدر وحيد في دولة ريعية.. ولم يكن القطاع الصناعي المنتج اليوم سوى ثمرة ايضا لنواتج النفط وعوائده.. وكل شركات البتروكيماويات لن تقوى على المنافسة لو اشترت الغاز الطبيعي أو المنتجات النفطية الأولية بالأسعار العالمية. كيف نصنع الامل دون أن نرى مشروع تحول حقيقيا وفاعلا يمكن قياس عوائده عاما بعد عام؟ وكمثال على انحسار المشروعات القادرة على صناعة الأمل، هذا التخبط في ملف الإسكان. كيف لنا في بلاد مساحاتها تتجاوز مساحات العديد من الدول الاوروبية الكبرى نواجه هذه الأزمة. وأين هو المشروع الفاعل الذي يتجاوز التفكير من داخل الصندوق القديم في مواجهة أزمة اصبحت تلقي بظلالها على مجموع بشري كبير؟ كيف لنا أن نقاوم هذا البطء في مواجهة قضايا لا تحتمل التأجيل أو التراخي، بل انها تزيد بالتراكم من حجم المشكلة وتصنع حالة من عدم الثقة ويجيرها تجار اليأس والتراب لبناء ثروات طائلة على حساب أهم وأكثر الحقوق الطبيعية للإنسان وهو المسكن الملائم. وهناك سلسلة من التحديات تطال قطاع الخدمات وغيرها من شؤون الحياة.. لم تزد الانتقادات التي طالت أداءها في السنوات الماضية إلى سرعة مواجهة تعثرها وتراجع انجازها. صناعة الأمل لا تكون عبر اطلاق شعارات براقة أو وعود خلابة في منظومات شديدة البيروقراطية. صناعة الامل تبدأ من الاستفادة من العقول والكفاءات والامكانات المتوفرة لتوظيفها بكفاءة، ولن يتم هذا سوى من خلال تغيير آلية صناعة القرار عبر اشراك المجموع بالبحث عن حلول وبرامج مناسبة وفاعلة لمواجهة تلك الازمات او التراكمات السلبية.. ولن يتم هذا دون مؤسسات قادرة على الدفاع عن حقوق المجموع ومراقبة الاداء ونزع الثقة لو تطلب الامر ومواجهة الفساد بكل عناوينه. صناعة الأمل تبدأ من مشروع يجعل الناس شركاء في إدارة حياتهم ومواجهة مستقبلهم عبر مؤسسات قادرة على تحمل المسؤولية، ولها صفة الالزام والرقابة والمحاسبة.. عندها يمكن الاطمئنان الى اننا بدأنا الخطوة الأولى في مسار الاصلاح الطويل.