- 1 - للبحتري في وصف بركة المتوكل، بيت من الشعر يقول فيه إن الناظر لهذه البركة في الليل، وانعكاس النجوم على صفحتها، يحسب «... أن سماء رُكّبت فيها»... لكن العلاقة بين الذات والقصيدة، بين السيرة الذاتية والكتابة، ليست بمثل هذا التماهي والوضوح، إن ما بين نجوم السماء، باعتبارها الموضوع، وذات الشاعر، باعتبارها بركة المتوكل، يحل ليل معتكر وضباب كثيف، ويجعل من الذات أو الصدر مرآة محدّبة أو مكسورة... هكذا نتخيّل علاقة المبدع بكلماته. - 2 - للذات حياة وللكلمات حياة. والغوص على كليهما شبيه بالغوص على الأجسام الضخمة لسفن غارقة في المحيط، ولا يطفو على سطح الماء منها سوى بقع من زيت أو أخشاب قليلة، وفي بعض الأحيان، لا شيء منها على السطح ليطفو، أو ليشير الى وجودها في القاع. فأي لوح محفوظ هو الكلمات، بإمكاننا قراءته مثل سطر في كتاب ليقول القائل: هذا أنا أو هذه سيرتي؟ لدي إحساس أحياناً حين أقرأ ما أقرأ، بأنني أقرأ سيرة رجل آخر سواي، تحتل ذاكرتي... إن ثمة غموضاً ما يلفّ العلاقة بكاملها: السيرة والقصيدة، الكاتب والكتابة... ولعل من هذا الالتباس أو الشك الذي يشوب اليقين، هو ما نرجّح أن نبتدئ منه. - 3 - في حفريات في حديقة «ميم» يرد المقطع التالي: «إن حفريات «ميم» لم تتم جميعها في تراب الحديقة، فهو على التأكيد كان يحفر في تراب آخر. كان الفأس يرن أحياناً في صدره» (من حلقات العزلة - دار الجديد - 1993). إن «ميم» هو الحرف الأول من اسم الكاتب... رمزه... الفأس قلم الكتابة، والكتابة هي الحفر... في مكانين: الحديقة والصدر... - 4 - كيف تكون الروح على شكل أسطوانة كبيرة تدور فوق المحيط، أو على هيئة طائرة مروحية تحوم فوق الموج، وتفتّش عن مدرج صالح لهبوطها الى القاع؟ ولماذا؟ ... فإنه كان لي صديق حبيب الى نفسي، مات ذات مرة غرقاً في البحر، واشتقت إليه، وتاقت نفسي لرؤيته، فعزمتُ على أن أُغرق ذاتي في اليمّ الذي غرق فيه لكي ألتقيه. وهذا ما حصل بالفعل. سوف يكون على القصيدة أن تكمل الحكاية وتروي ما حصل في هذه المغامرة، حيث: «أبصرتُه قلتُ أبصرتُه فلا تُلحفوا بالسؤال ولا تحرجوني سأروي لكم مثلاً أنّ ما كنتُ أبصرتُه ربما كان شخصاً سواه فهل عاد من بحره أحدٌ ليروي لكم ما رآه؟ فلا تسألوا يا مجانين لا تسألوا وانزلوا انزلوا ا ن ز ل و ا ...». - 5 - الدخول في الذات دخول في جوف الهرم. دخول في جوف الزمن كله. - 6 - أخاف. أسال نفسي: ممَّ، ولماذا؟ لعلّه الموت... سيد الحياة وسيد الكلمات. - 7 - نصف إبداع البشر في المراثي. - 8 - حتى الحب، فيه روائح من الموت. - 9 - منذ الصغر وروحي منجذبة الى حركة الريح وحركة الغيوم على الأفق... وقد كنت ولا أزال، مأخوذاً ببهجة السير في وجه العاصفة. أمشي في البراري الجنوبية، أو على سيف البحر في بيروت، وعيناي معلقتان على شريط فيلم الغيوم على الأفق السائل... وهي تتساحب أمام عيني فتجعلني أحسّ كأنني جالس وحدي في سينما الكون وعروض السماء تخلب لبي وتفتح مخيلتي لحكايات أشكال الغيوم المتغيرة، وتجعلني على صورة الكائن المسحور بموسيقى ومشهد ما أسمع وأرى في هذا العالم تحت خلاء القبة، وأنا أمشي أو أستريح على مقعد من حجر. إنني مشغوف برصد تحولات الفصول وهي تبدّل جلدها وتتقلّب مع الأيام تقلّب الإنسان على درجات العمر، فمفاصل الفصول كانت تفعل بي فعل البحار ببحّار وحيد يسافر على مركب في اللجج البعيدة. في الشتاء أتلصص من وراء النافذة على المطر العظيم الهادر الكاسح للحقول، فحل السماء النازل على الأرض، وربما تَقَطّع المطر على الزجاج، وكَرَجت حباته كدموع حقيقية، وأنا مثل السنجاب، أربض وراء الزجاج، والمطر ينقر في قاع النفس نقراته الرتيبة: طُقْ... طُقْ... طُقْ... وغالباً ما يأخذني نداء العاصفة إليه، فأخرج في البرية مبتهجاً بما لا يمكن وصفه من الأصوات والمشاهد. ومن يراني على هذا الحال يقول: ممسوس... نعم. هو ممسوس بالمطر والرياح. ولم يكن ذلك بالنسبة إلي سوى نداء العاصفة. - 10 - تتداخل، على ما أرى، في التواريخ الدامية والحزينة لشعب الجنوب العظيم النسور الجائعة والبلابل في الأمطار والأطفال المقتولون على عتبات الأنهار وفي منازل القرى... وجه قانا كوجه المسيح، ونهر الليطاني كنهر الشريعة... - 11 - لم أجد من الضروري أن يكون وجه القصيدة هو عينه وجه الحقيقة... القصيدة تاريخ ذاته. الحقيقة التاريخية موضوعية... لكن القصيدة تبدأ من حيث ينتهي التاريخ. إنها تتولّد من تأجج المخيلة... لذلك غالباً ما تخون الكلمات الحياة.. القصيدة أهم من الحياة. - 12 - في القصيدة لا واقع في الواقع. - 13 - الشعر كتابة حلمية. - 14 - أصل الشعر في الغيب أو في السحر. - 15 - ... ذلك لم يمنع أنه كان لنا، في «بيت ياحون» في الجنوب، دار وساحة وبعض أشجار التين والعنب، وإلى التينة حمارة صابرة دامعة، وفي الدار أبقار... وأننا كنا نعيش معاً وننام معاً نحن والأبقار والقطط، وكأننا «أمة واحدة». آهِ ما أجمل الحيوان. - 16 - روحي كإسفنجة، طالما شربت التراتيل الحزينة والأشعار التي كان يرددها جدي الشيخ. كان الرجل غالباً ما يتكلم مغمض العينين، على غرار عرّافي دلفي. كان يروي كمن يغرف من جوف حلم. كان كطاحونة. - 17 - ولم أكن أفهم لماذا كان يخاطبني دائماً بصيغة الجمع. يقول لي صلّوا صلّوا... إنه بلاء وابتلاء. الحروب وَهمٌ... الحروب لم تَقَعْ... - 18 - هو الآن ينام في الحديقة نوم التفاح. - 19 - أكان ينبغي أن أكتب كل هذه الحكايات، من أجل الشعر؟