سبق أن كتبت عن الناعق والمنافق وقلت إن بينهما مسافة أقصر من إبهام القطاة، كما تقول العرب.. والناعق هو الذي يصيح في كل «هبة» وفي كل مناسبة نعيق وزعيق.. فهو أشبه بالنائحة المستأجرة.. تصيح، وتولول، وتندب عند كل جنازة بل وتذرف الدموع واللطم عليها حتى وإن لم تكن تعرفها.. لأن تِذراف الدمع هنا أصبح مهنة ووظيفة، والغدد الدمعية رُوضت فصارت تهطل بالدموع عند الحاجة إلى النقود والمال.. وليست الحاجة إلى البكاء نتيجة عواطف الحزن والأسى والحرقة..!! والناعق كما أسلفت مثل النائحة، سوف ينعق في كل زفة، وعلى رأس كل تلة.. بل وعلى رؤوس الخرائب، والبيوت المهجورة، ما دام أن هناك أجراً أو ثمناً لهذا النعيق!! والناعقون كالبوم والأغربة لا تتعالى أصواتهم إلاّ في سنين النحس.. ولا صلة بين عقل الناعق ولسانه فلسانه مفلوت وغير منضبط، ولا تتحكم فيه نوازع الخير أو نوازع الأخلاق، بل ولا المنطق.. لأن مثل هذه النوازع لها ضوابط عقلية، أخلاقية فتتدخل فوراً لمنع اللسان من الزلل والانفلات.. بيد أن العلاقة بين الناعق وحلقه ولسانه قريبة جداً ولكنها بعيدة جداً أيضاً إن لم نقل منقطعة عن عقله وضميره.. وتاريخنا العربي بكل أسف مليء بحوادث وحكايات النعق والنعيق. أذكر حكاية لا أدري أين قرأتها.. حول قصة ذلك الشاعر، الذي صنع قصيدة لأحد ممدوحيه، فلما كان في الطريق إليه سمع أنه قتل، فحذف اسم الممدوح الأصلي ووضع مكانه اسم القاتل..! فلما وصل المدينة، وجد القاتل مقتولاً فصاغها رأساً باسم القاتل الجديد!! وفي وقتنا الحاضر هناك ما هو أدهى وأمر.. فما أكثر النائحين والمتقلبين في نوحهم ونعيقهم فما أن يروا توجهاً معيناً حتى يقرعوا طبولهم ويتعالى نعيقهم ويسيرون في ركبه، وما أن يتبدل هذا التوجه حتى يتبدلوا سراعاً وبلا توقف أو تردد.. وما أن يتغير موقف إلى موقف آخر، حتى ينقلبوا على أعقابهم من ذلك الموقف وصاحبه بلا وازع ولا زاجر: لا ترجع الأنفس عن غيها ما لم يكن منها لها زاجر هؤلاء أشبه بالعازفين في الجوقة، ينتقلون من لحن إلى لحن بسهولة ويسر، أو كالممثلين في مسرحية هزلية، يغيرون ملابسهم وأقنعتهم بسرعة ومهارة.. غير أن الفرق بين الممثلين والناعقين هو أن الممثل يلعب دوراً هزلياً مسرحياً يعرفه ويعرفه الجمهور.. أي أنه يمارس شيئاً من صميم عمله التمثيلي.. أما الناعق فإنه يدخل في الأمور الجادة والخطيرة والتي يكون أكثرها سلبياً وقد يكون ضاراً ومهلكاً وهو يعرف أنه يلعب هذا الدور التمثيلي الخطير بكل وصولية وخسة وبلا ضمير ولا وازع أخلاقي.. فدافعه الأول والأخير هو المنفعة وإرضاء شهوة التقلب، والتلون الرخيص الذي فطر عليه فالمصلحة هي إلهه.. ومن ثم فإنه لن يتورع في ممارسة هذه السفاهة والمخاتلة فلو عطس حمار لشمته، ولو عطس إنسان لشتمه إذا اقتضى الأمر ذلك!! والذين يمارسون هذه المهنة كنوع من الشطارة إنما يمارسون أرذل أنواع المداهنة والحقارة والانحطاط، فما أبخس تجارة الأخلاق والذمم! وما أكثر ضرر هؤلاء، وما أسوأ سلوكهم على الأمة والوطن.. إنهم دائماً غربان وبوم الفتن، إذ لا يعلو صوتهم إلاّ في أزمنة المحن.. حيث تختفي الحكمة ويطفح الزبد، وحيث يختلط صوت الحق بالباطل وضوء النهار بظلام الليل.. ففي مثل هذه الأجواء يزدهر موسم النعيق وتروج تجارته.. وهؤلاء هم من يزيد البلبلة ويضاعف من حجم البلية، وكثرة التخبط، إنهم بذلك يكسرون بوصلة الطريق فيصبح الأمر فوضى وغمة.. والركون إلى هؤلاء أخطر من الركون إلى الخصوم والأعداء لأن بوصلتهم الحقيقية، هي الانتفاع والطمع ولأنهم أقل رأياً وأقل حكمة، وأقل صدقاً وأفسد ضميراً من أن يعطوا مشورة أو قولاً مخلصاً وصادقاً يكونون فيه من الناصحين، وإنما هم كما أشرت كالنائحات اللاتي يبحثن عن جنائز.. سيكون فيها ولو كان الفقيد حماراً ما دام أن الأجر مضمون! بل إنهم والله العدو الذي يخلق ويصنع لنا الأعداء والكارهين!! فهل نتنبه لهم ونحذرهم؟؟ هل نحن واعون لخداعهم ومكرهم؟ أم أننا في غياهب الظلمة لم نعد قادرين على التمييز بين نعيق الأغربة والبوم.. وبين أصوات الأحبة والمخلصين الصادقين؟ لست هنا محتاجاً إلى أن أضرب الأمثلة، فالقائمة طويلة، والليل أليل.. والحديث ذو شجون، غير أن المتابع لوسائل الإعلام سوف يصك سمعه نعيقهم صباح مساء. ويا زماننا ما أعجبك!! ما أسرع ما أخرجت لنا هوماً ودوابَّ ناعقة قبل خروج الدابة.. وما أسرع ما أخرجت لنا دجاجلة أفاقين قبل خروج الدجال!!