الوأد من الصفات المحرمة.. وهي سنة جاهلية ذميمة مارسها بعض الجاهليين بدعوى الخوف من العار والفقر، ولهذا حرمه الله تحريماً قاطعاً بل أن المولى سبحانه وتعالى سيحاسب وائدي البنات حتى وإن كانوا جاهليين. (وإذ المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت..). وكان العرب يئدون بناتهم خشية العار.. والعار من الصفات التي تحط من قيمة الفرد.. بل من قبيلته جمعاء.. لذا فإنهم يفضلون الموت على تهمة العار. وللسبب نفسه فإنهم في حروبهم يخرجون نساءهم سافرات، ينتخين فيندفع الفرسان في قتالهم ليس كرهاً للعدو فقط.. بل وخوفاً من فضيحة ومعرة العار.. لذا فهم يقولون: «النار ولا العار..!». وحينما جاء الإسلام غيَّر هذه العادات الذميمة.. وبدَّلها بقيم إنسانية عظيمة سامية. فيُروى عن أحد رجال السلف الصالح ممن عاصر النبي عليه السلام أنه كان جالساً مع أصحابه، فبكى ثم ضحك!! فسأله أحدهم لماذا بكيت ثم ضحكت؟! قال: أما البكاء فكانت لي بُنية صغيرة.. وخوفاً عليها من العار أخذتها إلى البريَّة ورحت أحفر قبرها وحينما حملتها لأواريها في القبر نفضت الغبار عن لحيتي ثم قمت بدفنها..! فإذا تذكرت عملي ذلك بكيت.. فكيف يئد الإنسان فلذة كبده؟ أما سبب ضحكي فقد كنت في سفري ذلك أحمل صنماً من تمر، أصلي له كلما توقفت!! فلما جعت وأشتد بي الجوع عمدت إليه فأكلته!! فضحكت من عملي، إذ كيف يأكل المرءُ ربَّه؟! ولقد أعزنا الله بالإسلام فلم نعد نئد بناتنا ولا نأكل آلهتنا!! أقول: إذا كان الوأد الحسي قد انتهى من غير رجعة فإن هناك وأداً معنوياً لا يزال باقياً.. فهناك كثيرون يئدون طموح الشبان.. ويئدون طموح العاملين، ويئدون مشاريع الكادحين بطرق لا تقل بشاعة عن وأد البنات.. فكم من موهبة وئدت، وكم من عبقرية قتلت، كم من الشبان والشابات والعاملين والعاملات حيل بينهم وبين طموحهم كم من هؤلاء حرم حقه وصودر جهده وعرقه نتيجة تعسف مسؤول أو مدير أو متنفذ ما أكثر الذين حجبت عنهم الفرص، من المراكز، والرتب، فحطموا وكسرت وهشمت آمالهم وألقي بهم على هامش الحياة، بسبب المحسوبية أو الكراهية أو المصلحة الذاتية أو الرغبة في الظلم والانتقام. كم من مبدع قتل إبداعه فحرم حق النشر والبروز، وكم من مفكر قتل فكره بسبب بعض تلك المواقف، التي تغلب الهوى على الحق، والجور على العدل والعاطفة على الانصاف.. ما أكثر الذين يئدون حقوق الناس، ويدفنونها تحت ركام الرغبات، والميل الانتقائي دونما وازع من ضمير ولا زاجر من خُلق؟ وكل ذلك التحامل عادة ما يكون وراءه حسد «ما» أو خوف «ما» فيلجأ أصحابه إلى الدفن، والوأد.. بل هناك ما هو أشنع من ذلك.. هناك من يئدون قضاياهم المصيرية، ويأكلون ثمن دمائهم، ومقدساتهم كما يأكل الجاهلي ربه بحجة الجوع السياسي.. على أنهم وفي كل الأحوال لن يبكوا على وأد قضيتهم كما بكى ذلك الصالح على وأد ابنته.