لماذا يحتاج الإنسان إلى الفن، إلى الموسيقى التي لا تؤذي أحدًا، إلى فيلم درامي يعجن كل ذكرياته القديمة جاعلًا منها شيئًا يخاطب حنينه الذي افتقده ونسيّه في قطار حياته الذي لم يعد يعرف جهة مقنعة له كي يسافر نحوها. تخيل فقط، فقط تخيل، لو أننا نعيش في حياة لا أثر فيها للموسيقى، في حياة كلما أدرت مفتاح الراديو أو ضغطت على زر تشغيل التلفاز سمعت ورأيت كلاماً يصيبك بألم في جهازك الهضمي، كلامًا يجعل عقلك الحالم مستيقظاً بشكلٍ شرس وغير إنساني. لطالما شغل الكثير من الأدباء والفلاسفة هذا السؤال: - لماذا تحتاج البشرية إلى الفن وما مصدره؟ - ماذا سيقدم لهم، ماذا سيقدم لنا؟ -المتعة هل هي شرطها الأساسي؟ لا أحد يعرف هذه الإجابة سوى الفنان نفسه، ذلك الذي بلغ درجةً عالية من الحساسية المفرطة، تلك الحساسية التي ومن المستحيل أن تجعله يضرب أحدًا، أو يقتل نفسًا، أو أن يكون قائدًا لإحدى التنظيمات التي تستخدم الرصاص وفوهة البنادق أكثر من استخدامها للكلمات الهادئة والمقنعة التي قال عن تأثيرها غاندي يومًا: "يمكنك أن تهزم كل العالم بأسلوب لطيف خالٍ من القساوة" وكنايةً منه أيضًا على أنّ زمن الإجبار والخضوع والإذلال لم يعد مجديا، فقد أنفقت البشرية سنوات طويلة جدًا من الحروب دون أن تصل إلى نتيجة، بينما تم تغيير أجيّال كاملة بسبب رواية شاعرية ولعل خير دليل على ذلك ما فعله الأديب الألماني غوته في آلام فرتر! الفن ليس للمتعة - إطلاقًا - فالموسيقي الروسي تشايكوفسكي صديق السمفونيات الحزينة والثلاثية التي تحاكي ما يصعب محاكاته من قِبل ملايين الأفواه كان يقول: "لا الموسيقى ولا الأدب ولا أي نوع آخر من الفن، بالمعنى الحقيقي للكلمة يوجد للمتعة، إنها جميعًا تستجيب لحاجات أبعد عمقًا في المجتمع الإنساني"، أحد المفكرين كذلك وصف حاجة الإنسان للفن سواء كان ذلك الفن شعرًا أو روايةً أو نوتة يطلقها عازف ماهر من آلته الحزينة؛ بأنه محاولة جادة للتغلب على صراع الإنسان مع الطبيعة، فحين عجز البشر بثقافاتهم المتنوعة والمختلفة من فهم أسرار هذا الكون بروائحه وألوانه أرادوا أن يتفوقوا عليه بالصوت فاخترعوا الآلة والشعر، بل إن الفنون جميعها قائمة من روح الإنسان وغريزته القديمة والأزلية التي لا يمكن إقناعها بعدم جدوى الفن. إن الفنان حتى وإن كان لا يملك ما يؤهله من وسائل فإنه سيصنعه كي يبلغ هذه الغاية الماسة لحاجاته الباطنية والعميقة، فبتهوفن مثلاً كتب أجمل سيمفونياته وهو أعمى وأصم، "برنارد شو" كان يصف الرسام الإيطالي رافائيل بأنه كاد أن يكون أفضل رسام لو أنه عاش.. لو أنه حتى خُلق بلا يدين!، بيكاسو أيضًا حين سألوه عن نصيحة يقدمها للفنانين كي يكونوا أكثر قدرة في فنهم وإبداعهم قال لهم: "علينا أن نطمس أعينهم" إيمانًا منه بأن الفن في عمق النفس والروح يطلقها المبدع للريح لتحمل أغنياته لكافة الأوطان والجهات واللغات كالعصافير الحزينة. إن أي ثقافة لا يمكن أن تنمو وتعيش وتتكون بلا فن؛ فالكثير من المحللين والأنثروبولوجيين يؤمنون بأن مصدر الإبداع الأساسي هو "الدين" سواءً في أوروبا أو أفريقيا أو في القارّات الأخرى المنسية؛ ففي كنائس أوروبا تحضر الموسيقى ممزوجة ببعضٍ من كلامهم المقدس، وفي مدغشقر مازالت "رقصة العظام" تتم في كل عام، حيث يتم هناك نبش القبور بعناية فائقة، وإيقاظ الموتى دون أن يفتحوا عيونهم، ليأخذوا رفاتهم ويضعوها بسلام في أقمشة من حرير فائق؛ مبتدئين بعد ذلك مشوار الرقص بتلك الرفات في الأماكن العامة وبعد التعب من الرقص تتم إقامة أكبر وليمة لبطونهم الخاوية منذ سنوات قبل إعادتهم لظلام مقابرهم. وبعيدًا عن الرسم ونقرات البيانو وقصائد غوته، وقريباً جدًا من السينما والحياة التي تراها تُصنع أمامك، بوابة الزمن كما وصفها أحد الممثلين، السينما يقول عنها المخرج الإيطالي فيدريكو فيلليني: "أنا في قمة السعادة حين اقتطع التذكرة لمشاهدة فيلم ما، فالذهاب إلى السينما هو أشبه بالعودة إلى الرحم، فأنت تجلس هناك ساكنًا متأملًا في الظلام تنتظر الحياة لتظهر على شاشة"، لا تقف معجزة الفنان عند هذا الحد، في كونه يصنع حياة جديدة على شاشة، أو موسيقى تعيدك إليك، بل إنه أيضًا يستطيع وكما تقول ميّ زيادة تحويل قُضبان أيُّ سجنٍ إلى أوتار قيثارة بشرط أن يعرف المسجون كيف ينفث إلى جوهرها؛ ففي الجمادات حياة خاصة وسحرية وأنيقة لا يعرفها إلا من يتأمل بأعين حالمة وبقلب يعرف كيف يعيش بطريقة مختلفة!!.