نصف قرن من الثقافة تجعل صاحبها ركيزة بنيوية، وكذا هو سعد الحميدين، حيث تجتمع فيه أركان الثقافة بوصفها ذاكرة وبوصفها إبداعا وبوصفها عملا ميدانياً متصلاً وإيجابياً، ومنذ ظهور اسمه من الطائف كانبثاقة ثقافية كنا نتلقاها عن بضعة أسماء لفتوا نظر كل قارئ للصحافة ونقرأ لهم فرحين ومحتفلين بهم وقد شكلوا جيلا أدبيا لحق بالرواد وسجل حضوره القوي بإزائهم، وكان اسم سعد أحد هذه الأسماء الذي هل في ذلك الحين (مطلع الستينات الميلادية) وظل متصلاً كعلامة فاعلة في ثقافتنا، وفي كل تعامل لي مع سعد كان يذهلني بما لديه من رصيد ثري عن الجيل المؤسس من أدباء الرعيل الأول، يعرف حكاياتهم ومواقفهم وطرائفهم ومفارقات حياتهم، وهو رصيد تاريخي ووثائقي عن جوانب لم تسجلها الأوراق عن ذلك الجيل، وتعودت أن أتصيد منه حكايات الجيل حيث أجد ذاكرته وقد رصدت دقائق القصص حتى لكأني أراهم بعيني المباشرة وهو يصف مواقف من عجائب ما مر، وظل يحتفظ به مخزنا في رأسه ينتظر لحظة استدعاء فيتدفق مثرياً لسامعه ووفياً للماضين من سلفنا الأدبي والثقافي. ذاك ملمح ركيز في شخصية سعد الحميدين، يأتي بجانب سيرته الإبداعية التي ظلت تتساوق وتتواصل على مدى نصف قرن من العطاء والثراء ديوانا تلو ديوان، وحظيت تجربته الشعرية بمقام عميق في ميزان الإبداع وفي ميزان الدراسات النقدية وتعددت حولها وقفات نقاد عرب وسعوديين وباحثين أكاديميين، ومنحت الحقل الدراسي ثراء في الأمثلة وفي مظان البحث والتشريح النقدي على مرحلة إبداعه كلها من أول ديوان وانصل ذلك مع توالي إنتاجه الذي تواكب مع تطور حالة النص الشعري في تحولاته وتطوراته وتعدد صيغه وخطاباته بوصفه واحدا من أبرز كوكبة شعراء الحداثة في المملكة وتميزت تجربته الشعرية بديناميكيتها وتدفقها المتصل في تساوق عميق مع المد الشعري الإبداعي العربي، وهو ما زاد من تحفز الدراسات باتجاهه وتنوعها نظريا ومنهجيا. ويأتي الركن الثالث من مكونات الركيزة البنيوية لثقافتنا وهو توليه إدارة الشأن الثقافي في الجريدة، وهي مسؤولية امتدت لعقود منح فيها سعد كل طاقته من أجل الثقافة محليا وعربيا، وجعل جسده وتعبه جسرا عبرت من فوقه الأجيال الأدبية، جيلا بعد جيل، من مبدعين وكتاب ونقاد، مع الحوارات والملفات التكريمية وملفات القضايا والدارسات حتى أصبح الملحق الثقافي في جريدة "الرياض" مدونة علمية تشكل رصيدا وذاكرة باذخة الثراء والتنوع وشاهدة على التحولات المعرفية والنظرية والإبداعية، وصار الملحق مادة للباحثين وللدراسات الأكاديمية وأغرى ذلك عددا من رسائل الماجستير والدكتوراه، تنهل من هذا الكنز الثري المتصل الذي لم ينقطع ولم يتقطع وظلت أنفاسه عالية الإبقاع والعطاء، ومن ورائه فارس لم يترك صهوة جواده على مدى نصف قرن من الزمن من العطاء ومن التعدد والتنوع، وحضر فيه كل ناقد بارز ومن كل أصقاع المعمورة من عرب ومن مهاجرين ومن أساتذة زائرين ومن أكاديميين سعوديين وسعوديات، ويندر أن ترى اسما عربياً بارزاً ومؤثراً إلا وله في ملحق الرياض مرور عميق، تولاه سعد بعينه التي ظلت تصيد التميز وتتصيده لتضعه في الواجهة الثقافية حتى صارت الصحافة بثراء الكتاب وصارت المقالات تأخذ ثراءها وعمقها في مجال النظرية النقدية ومناقشة تحولاتها ومتغيراتها مما جعل الملحق في صدارة الحدث المعرفي وفي تساوق حر ومعمق معه، وكل تغير معرفي ومصطلحي كان يجد له مسربا في ملحق الرياض يسلكه نحو الجمهور العريض، وكان هذا مشهدا للمقالة النقدية النظرية والمعرفية، متخذة من لغة التوصيل الصحفي وسيلة لنشر المعرفة، وكان سعد هو الفاتح لهذا النشاط والراعي له والمتطلع لحضوره وتقديمه لقراء الجريدة مما جعل الجريدة تقوم بدور معرفي لا يتخوف من مغبات المغامرة حين يكون القول فلسفيا ومصطلحيا، وله بهذا فضل على النقاد أنفسهم إذ دفعهم هذا لأن يأخذوا على عاتقهم توظيف لغة تواصلية تكسر الحاجز التقليدي بين خطاب التخصص وخطاب التوصيل الجماهيري، وهنا تحقق في مقالات الملحق النقدية ما كان كل ناقد يتمناه بأن يكون خطابه جماهيريا وفي الوقت ذاته معرفيا، ولا شك أن رحابة صدر سعد الحميدين وتفهمه لهذا الدور وضرورته الثقافية والمعرفية هي ما وقف وراء هذا التحقق الذي لم يكن ليكون لولا ما لدى المشرف من وعي معرفي بتفهمه لهذه الوظيفة الشاقة والمهمة، ولا بد أن نسجل هذا المنجز لسعد الحميدين ونقدر له هذا الدور، وهذا ما يجعلني أصف تاريخ سعد الحميدين الثقافي بأنه (ركيزة بنيوية ثقافية) تعددت وتنوعت حتى غطت وجوه الثقافة كلها، ذاكرة وإبداعا وعملا، على مدى نصف قرن من الثراء والزخم المعرفي، حتى صار اسمه صيغة لهذه الركيزة.