هذه الأيام هي أيام ظهور نجم سهيل الذي يبدأ بالنسبة لوسط الجزيرة في 24 أغسطس، والذي يطل علينا من الأفق الجنوبي، أو بالأصح الذي نطل عليه نحن، فهو في الحقيقة لا يظهر لنا بل نحن الذين نظهر عليه في مخبئه الجنوبي لنراه، والفلكيون وأهل الجغرافيا يعرفون ذلك تماما. نطل عليه لأننا نحن الذين غبنا عنه وابتعدنا في فصل مضى، مالت عنه الأرض أثناء دورانها فاختفى وراء الأفق، أما هو ففي مكانه لا نعني له شيئا، لسان حاله يقول أنتم وشأنكم، وأنتم وصيفكم وحرارته تذهبون حيث تصهر جلودكم تلك الحرارة ومردك للعودة مرة أخرى، ومن ابتعد فليتحمل نتائج ما حصل له من حر شديد وملافح. «تمر ولبن» ما بين أهلي وناسي أغلى علي من الذهب عند الأجناب في هذا الوقت الذي نحن فيه الآن، أي نهاية شهر أغسطس، الأرض في مكان من الفضاء وموقع من الشمس يجعل ظروف الأرض المناخية تتميز بصفات أبرزها اتجاه درجات الحرارة للانخفاض، بينما تتراجع حدة المؤثرات المزعجة التي لازمتنا طيلة فترة فصل الصيف وهي: لهيب السموم وفيح الحر والحرارة المرتفعة جدا وشدة الجفاف والتبخر الشديد والحاجة الماسة إلى الماء مع قلته وجفاف العدود والموارد والحسيان ونقص مياه الآبار وقلة التعويض لانقطاع المطر. هذه المظاهر الصيفية كلها يبدأ التحسن فيها وتبدأ تتعدل الأوضاع ليس في الحضر فقط بل عند أهل البادية الرحّل أيضا، الذين لاذوا بالفرار صيفا من الصحراء وصفيحها الساخن، ملتجئين إلى حيث يتوفر الماء والغذاء قرب الحواضر والواحات والمزارع، يتجمعون بعد تفرق الربيع، وكأن البادية والحاضرة يتبادلون فصلين من السنة فكل منهم ينتفع بفصل فالبادية تزداد خيراتهم وإنتاجهم في الربيع، والحاضرة ينتفعون وقت جني ثمار النخيل في مثل هذا الوقت من كل عام. نأتي إلى المهم في هذا وهو جاهزية القرية كلها بالمكان والظروف و الوقت وكذلك المجتمع لأن تكون أجواء البلد مناسبة لاحتضان المسافرين من أبنائها، بعد عودتهم التي استمرت طيلة الأشهر السابقة، فلكل قرية أبناء يغتربون عنها، حيث تأخذهم الأعمال والبحث عن الرزق هنا وهناك في جميع البلدان، و تضطرهم ظروف المعيشة الصعبة أن يبتعدوا فترة مؤقتة عن أهلهم، بالضبط كما هم العمال الأجانب بيننا اليوم، يمكثون مدة لا يرون أسرهم ولا يجتمعون بهم، ومتى ما لا حت الفرصة لهم استغلوها فاجتمعوا بأهلهم وجماعتهم، كعودة الطيور المهاجرة إلى أعشاشها ومكان تألفه. يبدأ المغتربون من أهل القرى بالعودة في هذا الوقت وهو وقت ظهور نجم سهيل لأن الفرصة بالنسبة لهم وبالنسبة لأهلهم مناسبة للزيارة والاستضافة، ولكي يريحوا أجسادا أضناها التعب وأرهقتها الغربة، ويجددوا نشاطهم، ولأن المقيظ بين أهلهم أكثر سعادة لهم ولأهلهم حيث يتوفر لدى أهل القرية في هذا الموسم قدرا من [التمر واللبن] يجعلهم فرحين بضيوفهم وباجتماع الأعداد من عائلاتهم، لا يشكون فقرا ولا يعانون من حاجة، فالصدقات كثيرة والهدايا أكثر، وأصحاب النخيل والبساتين في وقتهم هذا على ما يرام اقتصادياً، وسخاؤهم على أنفسهم وعلى من حولهم بادياً بحكم كرمهم وأريحيتهم وحبهم للتواصل. هذا إذا بعض من الماضي، ونلمح بين سطوره صورة مشرقة من التكافل والتقارب والاكتفاء، مع الاعتزاز بما لديهم مما يغنيهم عن الاعتماد على الغير. وما أجملها من حياة يعتمد أهلها على ما يتوفر فيها وإن كان ذلك في منظورنا قليلا، كما اعتمد أجدادنا على التمر واللبن، وهذا يعني التضحية و الصبر والقدرة على الاستقلالية عن الغير و تعني أيضا قدرتنا على أن نعيش بسعادة زمنا طويلا على التمر واللبن، بل و أقل من ذلك فقد عاش أهلنا على الكفاف وعلى القليل جدا، حتى صار من صفات ماضينا التقشف والبساطة ولم يضرنا ذلك شيئا، ولم نكن في حياتنا رغم قلة ذات اليد والموارد تعساء وإن كنا فقراء، وهناك فرق بين هذا وذاك، فالفقر بلا شك معاناة ولكنه ليس بالضرورة مصحوبا بالتعاسة مادام المجتمع مترابطا يعوض أفراده الفقد المادي ويشبع جوانب العاطفة والرحمة والمودة وكذلك صدق الإحساس بالآخرين، علما أننا بالأمس لا نعرف حياة الترف التي وللأسف تغتالنا اليوم وتفسد الكثير مما نريد أن يبقى وتتسلل في حياتنا حاملة معها كل معنى للشره وعدم القناعة وكأننا في حال الانسياق وراء الترف نقتلع أسلوب حياة يعد من أهم ما نتذكره ونتمسك به وندعو إليه لكي يبقى فالنعم لا تدوم. هذه الأيام نتذكر الصيف الذي ولى وسموم القيظ و كل أيام الصحراء وهي وإن كانت لافحة إلا أن ساكن هذه الأرض ليس حزينا على شيء لم يتوفر فالتطلع لحياة الترف غير وارد، والمقارنة لدى أجدادنا أقل بكثير من الوقت الحاضر، فأجدادنا لا يقارنون بين بلدانهم وامكانات الأقاليم الأخرى، فهم يحبون بلدانهم بكل صفاتها وكما هي بوطنية صادقة أصيلة، لا يزهدون فيها لأنها مثلا حارة الأجواء أو قليلة الإنتاج أو لا تتوفر فيها الخضرة والمناظر الجذابة الجميلة، والعكس هو الصحيح تغنوا بها على ما هي عليه وكتبوا فيها القصائد ورددوا الأشعار شوقا وولها ومحبة، وأظهروها بصفات الجمال رغم كونها صحراء قاحلة بسماء صافية خالية من السحاب، لكنهم تلمسوا صفات تعجبهم في أرضهم، فمولد الشخص في البيئة ونشأته فيها تجعله في قمة السعادة عندما يعود إليها ويراها بعد غيبة و يرتبط بها روحا وعاطفة وواقعاً أو يبقى فيها ترويه بذكرى هي في الواقع دفق حياته وأنسها وسر سعادته كلما تذكرها فلا عجبا إذًا عندما يرى بلاده أجمل البلدان. ومثل ما تزدحم القرى والبلدان اليوم وقت مواسم الأعياد والمناسبات العامة، فإنها كانت تغص بالوافدين و ممن كان مغتربا وغائبا عنها طيلة العام من أهلها ممن يتقاطرون عليها راجعين إليها وقت المقيظ،، يعودون في نهاية الصيف للمشاركة مع الأهل والأقارب والجيران وأهل بلدتهم في وقت المقيظ وقت نضج الثمار، يقولون: طاح التمر وزال التعب، فيساعدون أهلهم ويقضون أجمل الأوقات وأسعدها في قراهم بين النخيل وتحت ظلها. وتكون الأجواء في نجد وقت المقيظ وظهور نجم سهيل معتدلة خاصة في الليل ذات طقس يشجع على قضاء وقت في تبادل الأخبار والسوالف والتعاليل والسمر في الهزيع الأول من الليل، فليالي هذا الموسم تكاد تنفرد بين ليالي السنة كلها، وبالتالي تحفر مثل هذه الجلسات العائلية ذكريات تزيد من الروابط الأسرية والاجتماعية وترسخها، مما يجعلهم لا يفرطون في مثل هذا الوقت كل عام، فينفكون من أعمالهم قادمين من مشارق الأرض ومغاربها، يقدمون من أماكن عملهم في البلدان القريبة والبعيدة والمحيطة حتى لكأن القرى في تظاهرة فرح، ضجيجها حياة و أنس، وأحاديث أهلها جديدة متجددة و الكل يشتاق لأن يسمعها. كما أن أهل القرى في مثل هذا الوقت لديهم وفر طعام وقدرة على الاستضافة وذلك لتوفر القمح و التمر، و توفر السيولة النقدية التي تحرك اقتصاد البلد بسبب الانتاج العام وقدوم الوافدين من أبناء القرية وقد حملوا معهم المال والهدايا، وهذا أيضا منتظر منهم، فينتعش كل شيء فيها. ولو لم يأت سوى محبة الموطن لبلده لكفى ذلك في خلق سعادة وفرح على الجميع الذين يلتقون في المكان بعد تفرق، ويجمعهم مثل هذا الموسم من كل عام. ولا ننس أنه موسم صيد الطيور المهاجرة المتمثلة في القميري والدخل والصفاري وغيرها، وأهل القرى لديهم وسائلهم الكثيرة للصيد، ولكن تتركز أهدافهم في سد حاجتهم من الغذاء وليس صيد ترف أو إساءة للبيئة أو مجرد هواية وعبث. ولقد عبر كثير من الشعراء عن محبتهم لبلدانهم وأنهم في تواصل دائم مع مجتمعهم بدافع الوطنية والاشتياق لمكان النشأة وهذا متوقع منهم. يقول الشاعر منصور بن عبدالرحمن البطي [تمر ولبن] ما بين أهلي وناسي أغلى علي من الذهب عند الاجناب وطن وطن حتى ولو كان قاسي أصبر عليه ان جار واصنع له اسباب وطن وحبه بالعروق متواسي يكفيه ربي شرّ مغرض ولعاب ويقول الشاعر ابراهيم بن عبدالكريم العتيق رحمه الله، حيث يحن إلى بلدته القصب: من جفى ديرته ما يرّجي خيره حالف إني فلا أنسَى ملحها وماها دبج ماها بريقي كنّه الشيره أبهج الكبد من جمّة ركاياها شوفة الجرف والعود ومقاصيره عندي أحسن من الأهرام وبناها عاش من هو على الديرة ضفى خيره القصب مثل باقي المدن ساواها ويقول الشاعر عبدالله بن سعيد في ديرته ملهم: لو غبت عن ديرتي ما نيب ناسيها سمومها بارد وبرودها دافي دار نشينا بها كلنا حلاويها هي أمّنا اللي شربنا درها الصافي