حتماً، ليست مأساة غزة في هذا الموت والقتل الذي نقل شهداءها في رمضان المبارك إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر، وليست في هذا الدمار والخراب الذي مسح البنى كافتها، وليست في العذاب النفسي والبدني والوجودي الذي استوطن المشردين من أهلها، وليست في المستقبل المجهول الذي ينتظر أيامها ولياليها، وليست في احتشاد كثير من دول الغرب وانحيازه إلى جانب العصابات الصهيونية البربرية العنصرية الحاقدة وانخراط كتائبه في صفوف الجيش الغاصب المعتدي المحتل، وإنما مأساة غزة الغالية في فلسطين العربية الحبيبة تكمن -تحديدا- في هذه القطيعة العربية وجوداً وانتماءً وهوية وحمية وكأنها لا تعني للعرب والعروبة أي شيء!! نعم أيها السادة.. كمّ هائل غريب عجيب من العرب يحيط بغزة في فلسطين ويتاخمها من كل الجهات وليس هناك من إشارة من أي نوع تفرحنا بأنها تعني لنا شيئا!! ياسادتي العرب، يا ذوي ويا أهلي العرب: لم يصل تفكيري ولا أملي وفألي إلى فكرة أن تنطلق الجيوش العربية المسترخية لتناصر وتؤازر الأحبة في غزةوفلسطين ضد العدو الأزلي المشترك الأول الذي دمر كل شيء في منطقتنا العربية، وإنما انثنيت على كبدي ألما وإحباطا وقهرا وكمدا وأنا أتجول بعد حلول عيد الفطر بين مسارح التلفزة العربية ومحطاتها الإذاعية، إذ لم أشعر لحظة واحدة بأن لهذه المسارح والمحطات أي علاقة لا بغزة ولا بما تغرق فيه من الكوارث والاعتداء والظلم والتدمير!! سوى ما يمر مثل الخيال في نشرات إخبارية بائسة!! أفهم، وأدرك، وأعي أن العيد إعلان للسعادة وإظهار للحمد والشكر لله على إتمام الصيام والقيام في رمضان، غير أن الذي لا أفهمه ولا أدركه ولا أستوعبه هو أن تتحول محطاتنا التلفازية والإذاعية إلى مدن ومسارح وساحات للتفاهة والسماجة والتردي في العقل والوجدان، وأن تقدِّم كلها دون استثناء أعمالا بلا أي مضمون سوى مضمون وحيد يدعو إلى الاستلقاء والضرب بالرجلين على الأرض ضحكا واستهبالا وغفلة لا مثيل لها. لا أخفيكم أيها السادرون في هذا السياق أنني عندما استسلمت لشيء من الرغبة في العزاء وحاولت أن أتماهى بشيء مما تقدمه تلك المسارح والمحطات شعرت تلقائيا بما يشبه الطعنة في الخاصرة وبالمرارة في النفس والجسد وبغصة وقفت في أول الصدر فعزفت عن كل شيء، وبدأت تنهال على عقلي ووجداني تفسيرات وتأويلات ومحصلات تتناول ما يجري في هذه الحياة كان من أكثرها إيلاما هذه الحيرة المتمثلة في هذه المفاصلة: هل نحن الذين لا نستحق أن نعيش هذه الحياة وأننا لسنا في مستوى شروطها أو أن هذه الحياة في مستوى من التردي والتفاهة لا تستحق أن تعاش بهذا الشكل المزري؟ لقد استحضرت وأنا أشد من أزر ذاتي لكي أتحمل تجربتي، أقصد تجربة المقارنة بين ما يجري في غزة وما يدور في بقاع الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، استحضرت قصيدتين، الأولى: قصيدة المعتمد بن عباد التي مطلعها: (فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا** فساءك العيد في أغمات مأسورا) والأخرى: قصيدة الشاعر الشهيد (عبدالرحيم محمود) التي مطلعها: (سأحمل روحي على راحتي** وألقي بها في مهاوي الردى) واكتفيت بهما؛ لأنني أعتقد جازما بأننا في هذه المرحلة تحديدا لسنا في مستوى قصيدة استثنائية مثل قصيدة (لا تصالح) للعبقري (أمل دنقل).. ولله الأمر من قبل ومن بعد.