غادرنا الأستاذ الكبير والفنان القدير عبدالجبار اليحيا بعد معاناة طويلة مع المرض وهو من أهم فناني المملكة ومن الرعيل الأول للتشكيليين الذين أسسوا الحركة الفنية السعودية مع فطاحلة الفنانين. وُلد أستاذنا في مدينة الزبير بالعراق عام 1929م ونشأ في وسط يُشع ثقافة فاطّلع منذ صغره على أعمال عظماء الفن العالمي مثل الكلاسيكيين دافنشي وأنجلو ورفائييل والتأثيريين سيزان ومانيه. أتيحت له فرصة الابتعاث لأمريكا ثم للندن حصل خلالها على عدة شهادات منها دبلوم الإلكترونيات من أمريكا ودبلوم إدارة المطابع سنة 1975. عمل أول معرض له في السفارة الأمريكية سنة 1969م, أقام بعدها عدة معارض شخصية يصل في مجملها عشرة معارض تقريباً وعشرات المشاركات الجماعية الداخلية والخارجية. الرؤية الشاملة لمجمل أعمال الفنان عبدالجبار اليحيا في طيلة مسيرته الفنية نجد أن أعماله تتسم بدراسة علاقة الإنسان بالبيئة المحيطة حوله, وعلاقة الإنسان بالإنسان. ولعل لوحة البناء هي من أشهر أعمال اليحيا الفنية رسمها عام 1984م بالزيت على قماش؛ فلقد شاركت في معارض كثيرة داخل وخارج المملكة في المعارض الوطنية. بالإضافة إلى ذلك أنها طُبعت في كتب وزارة التربية والتعليم في كتب مادة التربية الفنية للبنين والبنات. عند قراءة هذا العمل سيميائياً عن طريق البحث عن العلامات أو الإشارات التي يتضمنها العمل واستنباط الدلالات منها نجد أن هناك عدة رموز مثل الرجل في أعلى اللوحة وهو الأب والفتاة التي في الأسفل وهي الابنة وبينهما حائط يقف عليه الأب وطبق بين الأب والابنة, هذه العناصر الأربعة هي المكونات الرئيسية للعمل وهي المفردات التشكيلية التي بنت اللوحة ككل وهي الموضوع الرئيس, وتعتبر اللوحة بكل مفرداتها علامة تشكيلية بحد ذاتها توحي بدلالات ومعانٍ كثيرة ستوضح لاحقاً. للرجل كرمز في الثقافة الشرقية والعربية والسعودية تحديداً مكانة كبيرة يحتلها في موقعه كربّ أسرة وكقائد وشخص يُعوّل عليه كثيراً في القيام بأهم الأمور, فمثلاً يُلقى على عاتق الرجل مسؤوليات جمّة باعتباره القائم على المنزل. في لوحة البناء وضع اليحيا الأب في أعلى اللوحة ويقف فوق حائط لمنزل هو يبنيه بذاته بمساعدة ابنته, القدم اليمنى أعلى من اليسرى بشكل الدرَج وينحني ليمد كلتا يديه ليأخذ طبق الطين من ابنته التي تحتل المكان السفلي من العمل؛ وعند سؤال اليحيا عن سبب وضع الفتاة أسفل العمل والرجل أعلى ردّ قائلاً: بأن المرأة في المجتمع السعودي هي الأساس وهي القاعدة التي يُبنى عليها المجتمع. وبالفعل ففي الثقافة العربية يقول الشاعر حافظ إبراهيم: الأم مدرسة لو أعددتها .. أعددت شعباً طيب الأعراق في اللوحة ترفع الابنة طبق الطين لوالدها وهو ينحني ليأخذه إشارة بصرية "لقطة حدث" وضعها الفنان في منطقة السيادة والتركيز والسيطرة البصرية منطقة قلب العمل بين التقاء أربعة خطوط مستقيمة بينها خط أفقي يتخذ الشكل البيضاوي قليلاً وهو الطبق, توحي بقوة الرفع بعكس الجاذبية الأرضية لتلقّي طبق الطين من يدي ابنته التي أعدت الطين للبناء وتسلّمه لوالدها على شكل دفعات لبنة لبنة حتى الانتهاء من بناء المنزل الذي سيضم الأسرة مستقبلاً ويجعلهم يشعرون بالأمان والاستقرار والاستقلالية. مع النظرات المتبادلة تلاقي للأيادي الممتلئة بالمشاعر وطبيعة العلاقة بين آدم وحواء أو الأب والابنة والتعاون لتحقيق الأهداف. استخدم اليحيا في رسم هذه اللوحة الألوان الزيتية واستلهم من الطبيعة السعودية والبيئة المحيطة لأهالي نجد ألوان مواد البناء الشائعة في تراثهم المحلي وهي مادة الطين ويقرب لونها للون البيج لون الأرض الصلبة والمليئة بالخيرات لأنها الأصلح للزراعة ولون بشرة سكان نجد المكتسب من بيئة الجزيرة العربية لتعرضهم لأوقات طويلة تحت أشعة الشمس, كما استخدم لوناً أفتح منه لتلوين بشرة الفتاة ليعطي الدلالة على ثقافة سكان المنطقة المحلية التي تجعل الإناث في حالة الراحة والدعة والجلوس في المنزل بعيداً عن أشعة الشمس وحرارة الجو والقيام بأعمال المنزل اليومية. كما استخدم اللون البنفسجي في تلوين ثياب الفتاة وهو لون يفضلنه النساء حتى شاع في ثقافتهم بأن هذا اللون نسائي في المقام الأول, وتوارثت الأجيال هذه الثقافة اللونية لدرجة أنه يستحيل أو يندر تجد رجلاً يلبس هذا اللون في ثيابه في المنطقة الوسطى من المملكة. كما استخدم الفنان اللون البيج الفاتح جداً في تلوين الخلفية بدلاً من اللون الأزرق السمائي ليعطي الانطباع عن المناخ السائد في منطقته وهو الطقس الذي تُثار فيه الغبرة أوقات طويلة على مدار العام, هذا ما جعل العمل يكون في وحدة لونية واحدة تشمل جميع أجزائه انسجاماً لونياً وتناغم الأشكال لونياً مع بعضها البعض. ألمح اليحيا على فن الموضة النسائية السائدة آنذاك والقائمة على الاحتشام والزهد في التبرّج. يتميز العمل ككل ببساطته في التكوين وتوزيع المفردات والعناصر الشكلية واللونية والخطية, ولكنها البساطة التي ينبع منها قيم جمالية كثيرة ليس فقط من الناحية الشكلية وإنما حتى من الناحية المعنوية. فاللوحة ككل تعطي دلالات وتخلق معاني كثيرة عند المتلقي لها وفيها آدم وحواء في لقطة توحي بدلالات ومعانٍ عديدة مثل مبدأ التعاون الأسري في البناء والتكاتف في تأمين الاستقرار المستقبلي والمساعدة الجماعية في الاستقلال المعيشي. بالفعل افتقدت الساحة الفنية أهم فنانيها المخلصين الذين اهتموا بالتراث السعودي وتنميته, ونتمنى من أمانة الرياض أن تُسمّي أحد شوارع الرياض باسمه وتنشر صوراً من أعماله في إعلانات الطرق وأسوار مناطق المشاريع في الطرق المهمة ليكون لها دور ثقافي رائد في التاريخ السعودي. * ناقد وفنان