ينتظر المسلمون في فرنسا شهر رمضان بكثير من الشوق والحنين إلى أجواء روحانية دافئة يفتقدونها في مجتمع الغربة وصقيعها الروحاني والإنساني، ويستقبلونه بأجمل الاحتفالات والتحضيرات كزائر عزيز يؤنسهم ويحملهم إلى غسل النفس والروح بالإيمان والتقوى والتعاطف والتكاتف كمسلمين يعيشون في ديار الغربة غير المسلمة. وعندما نتحدث عن الإسلام في فرنسا فهو الدين الثاني حيث يعيش على الأراضي الفرنسية حوالي ستة ملايين مسلم بل وهو الدين الأول المطبق في بلاد العلمانية والحرية. ومن هنا يختلط الحنين إلى الوطن عند الجالية المسلمة، ولكن الكثير منهم تختلط أوراقهم في البحث عن الهوية والجذور الراسخة عميقا في التقاليد والعادات الأصيلة الضاربة في أعماق التاريخ الإسلامي، وتتجلى في أجمل مظاهرها بحلول شهر رمضان، فيزداد عدد المسلمين الذين يقبلون على الصيام في فرنسا خاصة من فئة الشباب، بعد موجة العداء الغربي للإسلام إثر الحادي عشر من سبتمبر. وحسب استطلاع أجرته صحيفة (الأبدو) الفرنسية فإن 88 في المائة من المسلمين في فرنسا يؤدون فريضة الصيام بينما تزداد النسبة لدى الشباب المسلم إلى 94 في المائة ممن أعمارهم دون الثلاثين عاما. عندما نقترب من المهاجر العربي والأفريقي الذين يكثرون في فرنسا، فإن الشهر الكريم أجمل مواسمه على مر السنة، لأنه يشعر بأنه ينسلخ عن واقعه الصعب ليعيش الروحانية الخالصة، من صوم وصلاة وقراءة للقرآن الكريم، ورغم صعوبة الصيام في بلد الاغتراب، حيث تغيب عن الأسماع تكبيرات المآذن وأصوات مدفع الإفطار والمسحراتي وعذوبة السهر حتى مطلع الفجر، لكون البلد الغربي له قوانينه ومحظوراته رغم احترامه حرية الأديان والثقافات، إلا أن روح الجماعة وجو الإيمان الرمضاني والتقوى يعيد للقلب الغريب دفأه ونبضه في صقيع الحياة المكبلة بسلاسل الغلاء ووجع الغربة. 1554 مسجدا عندما تتجه إلى منطقة (جوسيو) في باريس التي تعتبر من أهم المناطق العلمية والثقافية، ففيها جامعة السوربون الحديثة ومعهد العالم العربي والمكتبات العربية، وتطل في فضائها مأذنة مسجد باريس الكبير بطرازها المعماري حتى أنه يسرقك الخيال عند التأمل فيها إلى مدينة إسلامية، مثل فاس أو القاهرة أو القيروان. ففي ساحة المسجد تجتمع كل الألوان والأجناس، المسلم العربي إلى جانب الأفريقي والتركي والهندي والفارسي والفرنسي، ليؤدوا الصلاة جماعة مع آذان المغرب، ويوحدهم الإسلام ويجمعهم شهر رمضان في الصلاة والعبادة، وفور الآذان يوزع العاملون في المسجد كأس اللبن مع حبات التمر على المصلين، كما هي العادة في كل المساجد الفرنسية التي تتوزع في مختلف المدن حيث تنتشر المصليات الصغيرة والمساجد والمراكز الإسلامية الكبرى. وفي جولات استطلاعية أجرتها «عكاظ»، تحتضن باريس وحدها أكثر من 400 مسجد ومصلى منها مراكز إسلامية كبرى، مثل مسجد باريس الكبير الذي بني عام 1962م، وهو أكبر مركز إسلامي ديني وثقافي، ويتحلى بجمال عمارته وحدائقه وصالاته التي تحتوي المكتبة الإسلامية، وأخرى للشؤون الثقافية والمحاضرات الدينية، إضافة لمدرسة لتعليم الأطفال اللغة العربية، وأخرى لتدريس الإسلام، ناهيك عن ملحقات المسجد مثل صالة لعقد القران للمسلمين، وأخرى لمراسم اعتناق الإسلام، وتقودك ملحقات المسجد الخارجية، إلى المطعم والمقهى الشرقي الذي تقدم فيه الحلويات المغربية والشاي بالنعناع. وتتنوع الأنشطة والفعاليات حيث تعقد الجمعيات الإسلامية ندوات إسلامية كل سنة مع الإفطار الرمضاني تدعو إليه وجوها من المفكرين والإعلاميين العرب والفرنسيين، وقد اعتبر مسجد باريس من الأماكن المصنفة من التراث الوطني الفرنسي لتاريخه وأهميته كمرجع ديني للجاليات الإسلامية، حيث يجتمع فيه رؤساء الجمعيات والأئمة وعمداء المساجد الكبرى للإعلان عن رؤية الهلال وبدء شهر الصوم، ومن ثم يعلن عميد المسجد د. دليل أبو بكر هذا الخبر أمام جمع من وسائل الإعلام الفرنسية والعربية، خاصة منها الإذاعات التي تزف الخبر لمستمعيها مع التهاني ببدء الشهر، ومن المساجد الكبرى مسجد (أيفري)، وكان للمملكة العربية السعودية دور هام في تمويل بنائه، ويعتبر من المراكز الثقافية الإسلامية الكبرى بعد مسجد ليون الكبير، ويقع في ضاحية أيفري التي يسكنها عدد كبير من الجالية المغاربية، وهناك مسجد (الدعوة) في باريس العاشرة ومسجد أرجنتين ومسجد مونت لاجولي وهي تتوزع في ضواحي باريس، وحسب الإحصاءات يصل عدد المساجد في فرنسا إلى (1554) مسجدا ومصلى. ولا غرابة أن تكون فرنسا دولة استثنائية في القارة الأوروبية تجاه الإسلام والمسلمين نظرا للإرث التاريخي مع دول القارة الأفريقية ولا يزال تواصلهم في شد وجذب وشوق وحنين وحب وكره. إلا أن رجل الشارع الفرنسي يعي تماما مكانة رمضان في نفس المسلم فنجدهم يقدمون التهنئة بحلول الشهر للجيران والزملاء المسلمين في العمل وأساتذة الطلاب في الجامعات معلنين تقديرهم لجلد وصبر المسلم عن الطعام والشراب وملامسة النساء. موسم من ذهب يتخذ شهر رمضان مظهره التقليدي من خلال السلع العربية والشرقية التي تملأ واجهة المحلات العربية بالخبز الرمضاني والحلويات المغاربية والشرقية وأنواع أخرى من السلع كل حسب بلده، فتجد على سفرة الطعام الفول والملوخية والتمور السعودية والمغاربية بالإضافة إلى السنبوسة والكسكسي والطواجن. ليس فقط، بل تتزاحم الشركات الفرنسية الكبيرة مثل جيان وكارفور لتعرض المنتجات التي تناسب المسلمين من خلال قسم خاص في أروقة السوق وقد اتخذت في تسويقها كلمة (حلال) مختومة من قبل المسجد الكبير في باريس، حتى تشعر وأنت تتسوق بأنك في أحد مولات الرياض في بداية شهر رمضان، وفي نهاية الشهر نلاحظ الإعلان عن تخفيضات المنتجات الرمضانية. ويقوم عدد من المتبرعين والمحسنين بتقديم المال للمشرفين على تنظيم الإفطار الجماعي في المساجد وأكثرهم ينتسبون إلى جمعيات إسلامية معروفة لدى وزارة الداخلية الفرنسية حتى يكون بمقدورهم تأمين مشروع إفطار الصائمين في المساجد بالإضافة إلى مشاركة العائلات بوجبات يطهونها في بيوتهم. الإعلام ورمضان ما أن يعلن عن شهر رمضان إلا وتتنافس محطات الإذاعات و التلفزة والوكالات والصحف لبث الخبر إلى الجمهور المحب للاستطلاع بطبعه، ولم يتوقف الأمر هنا بل تميزت الكثير من المحطات بتكثيف التغطية لتخرج بتقارير مصورة ولقاءات من مختلف عواصم العالم الإسلامي بالإضافة إلى تقارير مفصلة عن رمضان في باريس لتشرح للمتلقي الفرنسي طقوس كل بلد في استقبال الشهر والأهمية الدينية والمعنوية التي يختزلها رمضان في قلوب الصائمين. وتأتي الإذاعات العربية التي تبث من باريس مثل (إذاعة الشرق وراديو الشمس وإذاعة المتوسط وراديو فرانس مغرب) بحزمة برامجية خاصة بالشهر الكريم تعمل على ربط الصائم بلغته ودينه وعاداته الأصيلة، وتكرس برامج خاصة للصائم، سواء منها البرامج الدينية أو البرامج الترفيهية، وتنقل إذاعة الشرق شعائر الصلاة والتراويح مباشرة كل ليلة من مكةالمكرمة، كذلك قيام ليلة القدر وصلاة العيد، وتقدم الإذاعات فقرة البرامج الدينية والأدعية قبل الإفطار، ثم بدء فترة المنوعات المسلية مثل: فوازير رمضان التي تقدم فيها جوائز من معلني الإذاعة. نكهة باريسية تزدحم المقاهي بروادها من عشاق الشيشة بعد الإفطار، وقد أصبحت عدد المقاهي التي تقدمها كبيرا وتوجد في مختلف مناطق فرنسا رغم قرار الحكومة الفرنسية بمنع التدخين داخل الأماكن المغلقة، لذلك ابتكر أصحاب المقاهي أماكن للسهر مفتوحة على شكل (تراسات) أو خيم لكي يتمتع الساهر بنفس الشيشة التي أصبحت اليوم عادة اجتماعية عربية بل وغربية أيضا، إلا أن القنوات الفضائية العربية أصبحت تشد الساهرين أكثر من الإذاعة والسهرات خارج البيت، حيث أصبح الدش في كل بيت، ومتعة متابعة المسلسلات والبرامج التي تحفل بها الفضائيات العربية، أكثر جذبا للعرب كونها تقدم له ثقافة بصرية أكثر جاذبية وتنوعا من المضامين والتوجهات، وبالتأكيد يبقى للسهرات متعتها وجمهورها الخاص، حيث يجد الصائم متعة في الخروج إلى أمكنة السهر خاصة في الأجواء الصيفية الحارة التي تشهدها القارة الأوروبية هذا العام. العزاب والعائلات تحتضن فرنسا حوالي 600 مبتعث سعودي بالإضافة إلى عدد لا بأس به من المقيمين والسياح وموظفي السفارة والمكاتب التابعة لها، يزداد ترابطهم وتعارفهم في رمضان من خلال تعاونهم في إعداد وجبة الإفطار والتسلية لسد الفراغ الذي أحدثته الغربة والبعد عن الأهل، «عكاظ» شاركت مجموعة من المبتعثين في مدينة بيسونصون شرق فرنسا إفطارهم، حيث يتجمعون قبل موعد الإفطار في منزل زميلهم محمد آل الشيخ وكل قد جلب إلى السفرة ما جادت به نفسه ليكون إفطارهم جماعيا، وقد ضمت السفرة التمور والعصير والمأكولات السعودية المعروفة في رمضان، وبسؤالهم عن الأجواء الرمضانية في فرنسا، بدأت على الوجوه الفرحة بالشهر واللمة، إلا أن حسرة البعد عن الأهل والأقارب والأجواء العائيلية في السعودية تخيم على الأجواء العامة، وفي حقيقة الأمر يشعر السعوديون بالاختلاف الكبير في رمضان بين السعودية وفرنسا، خصوصا أن ساعات الدراسة والعمل تطول إلى حوالي ثماني ساعات يوميا يتخللها فترة استراحة للغداء لمدة ساعتين وهي ما تعادل صيام اليوم كاملا على حد تعبيرهم خصوصا أن اليوم في الصيف يطول إلى حوالي الساعة التاسعة مساء بمعدل ست عشرة ساعة من الصيام. يقول ماجد العتل مبتعث لدراسة اللغويات: «يقدر أساتذتنا في الجامعة من فرنسيين وعرب صيامنا وصبرنا عن الطعام والشرب، أما زملاؤنا فيأخذهم الحماس ليشاركونا الصيام فمنهم يواصل لمدة خمسة أيام ومنهم أقل وآخرون أكثر، ونحدثهم دائما بالفوائد الصحية للصيام ويأخذهم الشوق إلى التجربة»، مضيفا أن الإعلام الفرنسي يلعب دورا كبيرا في التعريف برمضان. ويقول طلاب جامعة الملك سعود المبتعثين في معهد اللغة، كثيرا ما نسأل من زملائنا الأجانب عن طبيعة رمضان وأهميته في الإسلام، ونجد الفرصة المناسبة للحديث عن تسامح الإسلام وفوائد الصيام الدينية والصحية. إلا أنهم على حد قولهم يشعرون بالفرق الكبير من خلال البعد عن أصوات الآذان والتراويح. ويبقى وضع العائلات استثنائيا فما أن تدب الفرحة ببداية الشهر إلا ويبدأ الملل في اليوم الخامس بسبب الروتين اليومي والشعور بالغربة الحقيقية مما يضطرهم إلى محاولة السفر واستكمال الصيام مع ذويهم في المملكة.