إذا كان الكاتب المصري الكبير عباس محمود العقاد قد بدأ حياته الأدبية شاعراً يدعو إلى شعر جديد ونقد مختلف نظر لهما في كتابه «الديوان»، الذي نشر عام 1920، فقد أنهى حياته الأدبية نهاية رجعية لا صلة لها البتة بما كان قد بدأه، بل إنه سجل في حربه على جماعة الشعر الحديث من المواقف السلبية بإزائهم ما لم يسجله أحد من جماعة الشعر التقليدي، ولعل أبرز هذه المواقف انه - وقد كان مقرراً للجنة الشعر في المجلس الأعلى للثقافة - كان يحيل دواوين صلاح عبدالصبور ورفاقه إلى «لجنة النثر» للعائدية أي: إنه لم يعترف بأن ما يكتبه هؤلاء الشعراء هو شعر، فقد صنفه في باب النثر لأنه لم يكن كالشعر التقليدي الذي يعتمد أسلوب الخليل، بل أسلوب التفعيلة الذي شاع يومها؛ ولأنه كذلك فقد رفض الاعتراف به رفضاً لم ينفع حوله جدل اثاره يومها كثيرون ممن حاولوا التوفيق بينه وبين هؤاء الشعراء الجدد، وأعادوا الى ذكراته موقف الشعراء المصريين التقليديين من شعره هو بالذات، عندما كان لا يزال شاعراً شاباً فقد رفض هؤلاء الاعتراف بشعره واعتبروا ان المبادئ التي أسس عليها نظريته في الشعر لم تكن بالمتانة التي ادعاها ولا ائتلفت قصيدته مع الجودة التي كانت من اسماء القصيدة عند أمراء الشعر العربي يومها وفي طليعتهم شوقي. كثيرون استغربوا في تلك المرحلة موقف العقاد من الشعراء التفعيليين وليس هناك من شك بأنه وقف مثل هذا الموقف أصلاً، ولكن الحقيقة التي عرفت بتفاصيلها لاحقاً كشفت عن أن العقاد كان صلباً لا في موقفه من هذا الشعر الجديد، بل في موقف آخر مماثل من قضية الفن التشكيلي الجديد، كما مارسه فنانون طليعيون معروفون. وقد روى حكاية هذين الموقفين بتفاصيلهيما الباحث المصري الكبير الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه «مع الشعراء» لا رواية من سمع بهما، بل رواية من عاين وشارك واعترض، كان زكي نجيب محمود صديقاً للعقاد كما كان عضواً في «لجنة الشعر» التي كانت تحال إليها دواوين الشعراء. فشهادته إذن لها وزنها الخاص فضلاً عن ان صاحبها معروف برصانته ونزاهته وقد ظل على صلة بالعقاد إلى ان توفي العقاد. يروي الباحث الكبير أن «لجنة الشعر» أرادت ان تراجع يوماً ما نشر من الشعر في الصحف وأذيع في الإذاعة في مناسبة العدوان على بورسعيد لكي تكافئ وتنوه بالمجيدين من الشعراء. عند اجتماع اللجنة والعقاد هو أمين سرها ثار السؤال التالي: هل يقبل الشعر إذا تخلى الشاعر عن تقاليد هذا الفن الأدبي الموروثة على مر السنين من وزن وقافية؟ امتد النقاش ساعات وموقف العقاد من رفض هذا الشعر السائب كما سماه صلب لا يلين. وحجته انه إذا كان لكل لعبة قواعدها التي لا تجوز بغيرها افلا يكون للفن قواعده؟ ثم ما عيب النثر الفني إذا ما ألحق هؤلاء الناثرون أنفسهم به؟ وآخر ما وصلت إليه المناقشات من نتائج فيها التحوط والتسامح هو ان معيار القبول والفرض إنما يكون الجودة وعدم الجودة الفنية من دون اشتراط شيء أكثر من ذلك قبل العقاد بذلك لكنه ظل قراراً لا يجد الحالة الواحدة التي يطبق عليها، فكلما وردت إلى اللجنة قصيدة من الشعر الحديث قررت اللجنة ان تحال إلى لجنة النثر لعدم اختصاصها هي بالنظر فهيا. اشتدت الحملات الصحفية على العقاد في موقفه هذا ومن ورائه لجنة الشعر لكنه لم يكن هو الرجل الذي يعبأ بمثل تلك الحملات العلمية؛ لانه تعودها حتى أصبحت جزءاً من حياته التي لم يكن يعيش بغيرها. وقد بلغ من موقفه هذا في صد موجة «الشعر السائب» ذروة التطرف حين عرضت على لجنة تحكيم شكلت ذات عام للنظر في من يستحق نيل جائزة الدولة في الشعر. كان هو مقررها وكان زكي نجيب محمود أحد أعضائها، فنشأت مشكلة هي ان ديواناً تقدم بين غيره من دواوين، والديوان من الشعر الموزون المقفى لكن صاحبه قدم للديوان بمقدمة قال فيها إنه لم يعد ينظم على نهج التقليد، وانه أول من لا يرضى من قصائد هذا الديوان، ولو قال الشعر الآن لما قاله الا في الصورة المستحدثة الحرة، وقد كان مستوى الشعر في ذلك الديوان مما قد يرشحه للجائزة، لكن العقاد وقف كالسد المنيع يقول إن النظر يكون إلى مقدمة الديوان وإلى شعره، معارضاً لمن قال ان المسابقة هنا منصبة على الشعر وحده. وعبثا حاول القائل ان يحمل اللجنة على الفصل بين نثر المقدمة وشعر القصائد، لأن العقاد لم يقبل ان تجزأ الشخصية الواحدة هذه التجزئة المصطنعة فالرجل شيء واحد يقبل كله ويترك كله ولا مساومة! وأشد صلابة من موقفه تجاه الشعر الحديث، موقفه من الفن الحديث. يقول زكي نجيب محمود انه شرف بزمالته في لجنة أخرى أقيمت من أجل تفرغ من رأته جديراً بالتفرغ من أدباء وفنانين، حتى يخلى بين هؤلاء المتفرغين وممارسة أدبهم أو فنهم، وإن الدولة لتجزل العطاء لهم - بناء على توصية لجنة التفرغ هذه - حتى لا يشغلهم من شواغل الحياة المادية شاغل. شاءت إرادة الله أن يكون كل رجال الفن الذين طلبوا منحة التفرغ من الآخذين باتجاهات الفن الحديث. وشاءت إرادة الله أيضاً أن تكون الأغلبية الغالبة من أعضاء اللجنة المناصرين لتلك الاتجاهات، هنا كذلك وقف العقاد وقفات من جديد، لكنها لم تجد في هذا الميدان جدواها في ميدان الشعر، لأن الأعضاء في لجنة الشعر ممن يصرّون على الشعر التقليدي، وأما الأعضاء في لجنة التفرغ فمن أنصار الفن الحديث. ويتابع زكي نجيب محمود الحكاية قائلاً: من طريف ما حدث ونحن مجتمعون لتجديد منحة التفرغ لمثّال - وقد أخذنا نستعرض ما أنتجه ذلك المثّال خلال عام المنحة الماضية، وهو في الحق مثّال موهوب، فكانت القطع المنحوتة كلها قد نحتت وفق مدارس الفن الحديثة، التي تعنى بالكتلة لا بالتفاصيل. ومن بين القطع المعروضة تمثال لقط، جاء على صورة أسطوانة طويلة هي البدن، وكرة عند أحد طرفيها هي الرأس، والأرجل وذيل على صورة الاسطوانة كذلك. لكن هذا النحت الكتلي قد أخرج قطعة فنية ممتازة. شّن العقاد حملة أقوى ما تكون الحملة المسلحة بالحجج. وكان مما قاله ساخراً: هاتوا فأراً أمام هذا التمثال، فإن جرى هارباً عن ظن منه أنه أمام قط، وافقت على تفرّغ الفنان.. وأما عن المصورين الذين أرادوا تجديداً لمنحة التفرغ وكلهم ذوو فن حديث، فقد راح يعارض ويمانع بألذع ما يستطيعه من تهكم فيقول: إن في مستطاعي أن أرسماً مثل هذه اللوحات ففيم يكون هؤلاء الناس من رجال الفن؟ وراح يعيد القصة المعروفة من أن عدوا للفن الحديث قد ملأ ذيل حمار بالألوان وأطلق الحمار ليخطو كما اتفق فيحرك ذيله على اللوحة، فيلونها بخليط من اللون كما يفعل رجال الفن التجريدي ثم بلغت بالرجل روح الفكاهة أن يعرض تلك الصورة في معرض للفن الحديث. لم يأل العقاد جهداً في مقاومة هذه الموجات، وكان مما يحتج به دائماً أنه في هذه اللجان يشعر أنه يمثل الدولة، فلو كان الفنان ينفق على نفسه لتركناه. حراً، لكن هل يجوز أن تنفق الدولة على فن لم يقل فيه التاريخ كلمته بعد؟ ألا يجوز أن يختفي بعد حين - وسيختفي حتماً كما كان يقول - وإذاً تكون الدولة قد أنفقت مالها وتشجيعها على نزوات؟. الواقع أن موقف العقاد من الشعر الحديث ومن الفن التشكيلي الحديث كما يرويه «الشاهد» العياني الدكتور زكي نجيب محمود لم يفاجئ الكثيرين، ذلك أن العقاد الذي بدأ تقدمياً في شبابه الأدبي، منفتحاً على تيارات الحداثة في الأدب والنقد والثقافة في أوروبا، تحول مع الوقت إلى كاتب محافظ، كما يصفه بعضهم، وإلى كاتب رجعي كما يصفه بعضهم الآخر، عندما كان في ريعان شبابه كان يحمل على شوقي أمير الشعراء بداعي محافظته، وقدم معانيه، وأساليبه في الشعر. واستمر زمناً طويلاً رمزاً من رموز النقد والشعر الجديدين. فما أن بدأ مرحلة الكهولة ووصل إلى الشيخوخة حتى أخذت مفاهيمه الأدبية والثقافية تصاب بالتخلف والتصلب، وكأنه لم يكن ذلك الكاتب المجدد، والطليعي، ذات يوم. ووصل به الجمود إلى الحد الذي رأى أن الشعر الحديث الذي نظم به شعراء مصر الجدد في الخمسينيات ليس شعراً؛ لأنه لم يكتب على أسلوب الشطرين الخليلي، وطلب إحالته بصفته مقرراً للجنة الشعر في المجلس الأعلى للثقافة بمصر إلى «لجنة النثر» للاختصاص. ويبدو أن العقاد كان يخضع في تحولاته الأدبية والثقافية هذه إلى سنّة كثيراً ما خضع لها، مع الوقت، أدباء كثيرون مثله، بدأوا تقدميين وانتهوا في المنقلب الثاني من حياتهم إلى غير ذلك. فكأن «التقدمية» شبابية بطبيعتها وكأن المحافظة أو الرجعية، ملتصقة بالتقدم في العمر. وقد أتيح لي مراراً - على سبيل المثال - أن استمع عن قرب إلى الشاعر اللبناني سعيد عقل في نصف القرن الماضي (وقد تجاوز المئة عام الآن) يردد، حول الشعراء والفنانين التشكيليين الشبان، آراء لا تختلف في قليل أو كثير عن آراء العقاد. فالموقف ذاته، مع الإشارة إلى أن سعيد عقل بدأ حياته الأدبية آخذاً ما لا يحصى من المآخذ على كبار شعراء ذلك الزمن ومنهم الأخطل الصغير وجيله، فالتراجع، أو التحول، فيما يبدو يؤلف سنّة أو قاعدة تصيب الأديب عادة في سنواته الأخيرة، فيبدأ ينقلب على ذاته ويتبنى من الأحكام والمواقف ما كان يرفضه سابقاً رفضاً تاماً. هذا في حين يستمر آخرون على نفس النهج الذي كانوا يسلكونه زمن شبابهم عن صدق حيناً، وعن غير صدق حيناً آخر، وذلك حرصاً منهم على سمعة «التقدمية» لا أكثر ولا أقل. ولعل «الرجعي» الذي مثله العقاد يفضل بنظرنا الكاتب الآخر الذي يحرص على التظاهر بالتقدمية لا لشيء إلا ليقال عنه إنه تقدمي، ولم يجنح إلى الرجعية التي جنح إليها سواه. ويبدو أن التحول الذي طرأ على العقاد طرأ على ما لا يحصى من الأدباء العرب في القرن العشرين، لا على عدد قليل محدود، فكأنه كما قلنا سنة أو قاعدة تصيب الفكر والروح، تماماً كتلك السنن والقواعد التي تصيب الأبدان وسائر ظواهر الحياة الأخرى.