أن تسمع بالدعوة للحوار أو التسامح وسط هذا الاصطراخ الغاشم بالقتل والهمجية فلك أن تتصور شخصاً يعيش بقلبين أو روحين، أو بنصفين أحدهما في الجنة، والآخر في النار، أحدهما في أقصى العالم حيث قداسة حقوق الإنسان وحريته وحقه في العيش والقبول، والثاني في أدناه الذي لازال يستعدي الحرية والحقوق الإنسانية وينبذها ويشتم واضعيها ويعدّهم مجرد كفار، يحدث نفسه بغزو بلادهم واحتلال اراضيهم، هذه هي حال اجتماع النقيضين في ثقافة تفترض لتسامح بما هو سمة عامة في الفكر الغربي منذ النصف الثاني من القرن السابع عشر وفكرة معاصرة ملازمة في زماننا هذا، فإن هذا التسامح يبدو غائبا في المقام الأول عن الاستدعاء اللغوي العربي، وبالتالي هو غائب غياباً طبيعياً عن أنماط التفكير كافة.. أنها تطمح للسلام والإنسانية فيما تلوذ بالصمت الجبان أمام المد الإرهابي بكراهيته الشوهاء وتنظيره الأيديولوجي للكره والعنصرية والتنطع والتخلف، شيزوفرينيا بانورامية حيثما رفعت شعارات السماحة والتعايش صرخت أبواقها بالكراهية القاتلة للإنسان.. في هذا العصر لن تجد كالمسلمين- العرب خاصة - في ترسيخ دعائم الكراهية وهصرها في بوتقة مقدسة تحميها من الانفكاك خارج آفاقها المترعة بأفانين العنصريات الداعمة للغي والبغضاء، المغلقة بأقفال صدئة من الطائفية والمذهبية والعصبية الجاهلية.. ولطالما أغلقت المنابر ومؤسسات المجتمع عن مناقشة هذا الداء الخطير الذي أوصلنا لما نراه اليوم من صور القتل المرعبة واستباحة الدماء البريئة بطغيان مقيت وكراهية مستدامة عبر تاريخ سجن إنسانه في زخارف ماضيه، فتعتق بعاطفته الاصطفائية مستوحشاً ومفنياً سواه.. وكما يحارب التطرف والكراهية التسامحَ ضمن ذهنية الاصطفاء والنقاء للذات مقابل النبذ والاحتقار للغير، يجهد باستجداء عقيدة ملفقة تحل التاريخ محل النص، ليتم"عقدنة" الكراهية (= تشكلها كعقيدة) بفعل مدرسة الفقه، فيشتغل عليها موجهوها كفكر يسعى للتفرقة والتشرذم.. في بيئة كهذه تصبح الأجواء مفعمة بفرص الاستغلال، وكلّ حسب مصلحته يسطر فهمه وينخر في جدار الأنسنة كوةً يسكب من خلالها حميم الاستعداء بقيادة عنجهية صاحبة الجلالة؛ الكراهية.. وأمام رقع هزيلة تردم الواجهة برث الثياب وتحفر لمستقرها في القاع.. ينفجر الجدار.. ليفجر المشهد.. فعل الكراهية ليس فعلاً أولياً تلقائياً، بل هو فعل مطلق عبر الزمان والمكان لعاطفة محمومة؛ تتبنى الولاء للكراهية والبراءة من محبة الإنسان.. وكما كانت قراءة النص الجهادي قراءة كاذبة عبر قرون مديدة كذلك المعتقدات المتصلة بها، والمزيفة بباطل التعاطي الإرهابي عبر إسلاموية كاذبة لا شأن لها بإله رحيم، أو إنسان مفطور على الخيرية،، وباستعلاء لفقه محصن عن الانتقاد، تحضر "عقيدة الولاء والبراء" الفقهية لتناقض النص صراحة(لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). فأين النص وأين الفقه في مفهوم الولاء والبراء ؟!! إنه لو كان فقهاً متمرحلاً يرتبط بظروف عصره لما كان تجاوزه مشكلة، لكن وباستهلاك ممتد نشط تشظت الكراهية على كافة الأصعدة، لتشن حروبا طائفية على دين واحد؛ تهتك الحرمات ويذبح الناس بها كالنعاج، ليهدر المقدس الأسمى؛ الإنسانُ، جملة وتفصيلا.. إحياء الإنسان عقيدة، وفناؤه الدمار، نصت عليه الأديان حرمة للأنفس فقتل نفس واحدة كقتل الناس جميعا وإحياؤها كإحياء الناس جميعا،ً لكن الظالمين لايعقلون.. ولا زال التاريخ يسجل انتصاراته على النص في التبني والاعتناق، لتعلو على النص أقوال ورجال، وأحداث وغزوات ذات انتماءات طائفية ومذهبية.. وإزاء البغي الشامل لعاطفة الكراهية تتعدد أيديولوجية اللاتسامح أو تبرير استخدام العنف أبرزها؛ هدر فاحش في كتابات فارقتها الحكمة متجاوزة فكر الفقهاء لتنشر أداليج مناهضة للتسامح وتعكس صورة سيئة للعالم عن ديننا وهويتنا؛ شيعة وسنة، بإرهاب يشرعنه متطرفو المذهبين.. ويظن بعض الكتاب أنهم أحرار حتى تصرخ قيود الكراهية المقدسة بعقولهم، فتصطف كلماتهم وأفكارهم لادعاء مظلومية جماعة إرهابية "كداعش مثلاً" وشرعنة لأعمالها الإرهبية؛ إما بالتبرير أو بالتبني المخبوء تحت طلاسم الوعي المأزوم، والثقافة الموهومة، والأنسنة الكاذبة.. وعندها يفقد أحدهم تجرده للإنسان متخبطاً في غيابات الطائفية المقيتة.. لم يستطع أحد الكتاب أن يخفي إعجابه بداعش رغم تحفظٍ سمحٍ على غلوها الذي يراه أحيانا نعمة عندما يوجه لعدو آخر؛ (غير السنة)؛ معتبراً انضواء داعش للفصائل المعارضة ضد نظام بشار الأسد تقدماً كبيراً يحق شكر من أقنعهم به!! مع اعترافه بأن هذه الخطوة الداعشية قد تكون مرحلية، لكنه يرحب بها - وإن كانت مكسبا وقتيا- طالما هي لمصلحة السنة!! وكأن قتال الفصائل الأخرى خير محض وهداية رحمة مادام يتجاوز طائفته!! ثم النقطة المهمة التي يخشاها فيما لو أخذت سكرة الانتصارات بلب الأفواج العربية التي يرى أنها ستنضم لامحالة لداعش، فيذكّر العلماء بدورهم الذي وصفه "بالمنتظر" بضرورة نصح الإخوة الداعشيين للتخفيف من غلوهم، وتوجيههم إلى حيث العدو الحقيقي في الشرق حيث إيران والغرب تجاه النصيريين، فالوقت قد حان لتوجيه هذا التنظيم" يعني داعش" الذي أثبت وجوده" والأمل يحدوه في قيادات داعش بأن يلهمها الله التحرك لتنفيذ هذه الحرب المقدسة.. ليصبح الداعشيون إخوة له، والواجب على العلماء جمع كلمة أهل السنة لمواجهة عدو الأمة؟!! أي جيش؟ أم أي عدو؟ أم أي معركة؟!! إنه باختصار؛ العمى الطائفي؛ الذي يعلق لأجله أمله بهؤلاء السفاحين، فهم ( الداعشيون) في حال توقفهم سينكفئون ويقاتلون أهل السنة الثائرين معهم اليوم في العراق؟!! ويطالب العلماء "بالقيام بدورهم بجمع كلمة إخوتنا السنة في العراق" خطاب أخوي لفئة إرهابية وكأن داعش دخلت الموصل ونينوى وهي تفرش الزهور لأبنائهما، لا وهي تقتل وتفتك بالأرواح بإرهاب لا يخطر على قلب بشر؟!! لقد آلمني ذلك المقال، ألم إنساني وألم الخوف من توجه خطر بات يشكل في مجموعه دعوة مخيفة وتبنياً خطراً أمام الرأي العام.. إن إبطال خطط الاستهداف الأمني في المنطقة يوفَّق له بالتعقل والدعوة لأخوة عامة تتجاوز عصبية الولاءات الضيقة المتعصبة للمذهب كخطوة أولية في طريق التسامح.. وكما يصطف الولاء الطائفي للدفاع عن جماعة إرهابية وادعاء مظلوميتها، تحضر كتابات أخرى تستنجد بأمريكا لتحل وضع المسلمين المتقاتلين، مع الاعتراف بأنها وراء المخطط الهادف لتقسيم المنطقة، كأشد أنواع الازدواجية المعتمة.. الوقود جاهز وإخماد الحروب ليس كإشعالها، وجر المنطقة اليوم لحرب طائفية لا يدشنها المرجعيات والأحزاب الطائفية فقط، بل يساهم فيها بعض الكتاب، بخلق أجواء ما أطلقت عليه أمريكا "الفوضى الخلاقة" سيكون الخاسر الوحيد فيها العرب، والمستفيد منها الصهاينة المحتلون وحلفاؤهم في العالم.. اليوم وكيما نحقق تصويب بوصلة توجهنا، يحتم واجبنا الثقافي علينا أن نبحث عن فضيلة التسامح عامدين، فالتسامح ليس الخيار الثاني ولا الشر الذي لامهرب منه، ولا هو تحمل ما نحن مضطرون لتحمله في سبيل السلم والهدوء، إنه صلاح إيجابي وفضيلة يمتاز بها أفضل الناس وأفضل المجتمعات.. فالمبدأ الأول لحقوق الإنسان كافة هو التسامح.. والمجتمعات الغربية هي الوحيدة التي تتمتع بقدر كبير من الحرية وفيها قدر كبير من التساوي أمام القانون، وتتمتع بقدر كبير من التسامح.. (صحيح أن فكرة التسامح الحديثة ارتبطت بالمسألة الدينية عند بداياتها، لدى الفيلسوف جون لوك الذي كان ينظر إليها بوصفها الحل العقلاني الوحيد لمشكلة الخلافات التي نشأت داخل المسيحية، التي هي الدين الرئيسي في الثقافة الغربية، غير أن التسامح سرعان ما أصبح بالتدريج شيئا آخر: صار هو العمود الفقري لليبرالية بوصف هذه الأخيرة فلسفة عامة للجماعة البشرية)، (والحق أن شهرة جون لوك الرئيسية كمفكر سياسي إنما تستند الى نظرته المؤسِّسة لمشروعية الدولة العلمانية؛ أي المتسامحة دينياً.. كتاب التسامح بين شرق وغرب.. دراسات في التعايش والقبول بالآخر.. ترجمة ابراهيم العريس. فالتسامح بما هو سمة عامة في الفكر الغربي منذ النصف الثاني من القرن السابع عشر وفكرة معاصرة ملازمة في زماننا هذا، فإن هذا التسامح يبدو غائبا في المقام الأول عن الاستدعاء اللغوي العربي، وبالتالي هو غائب غياباً طبيعياً عن أنماط التفكير كافة.. ف"في العالم العربي يلفت التسامح النظر بغيابه".. إذ ليس لمجتمع لم يؤمن بثقافة النسبية والتعددية أن يخلق فرصة التسامح والتعايش، والثقافة الأبوية التي تفترض في أن أشخاصاً ما في المجتمع لن يسعهم أن يصبحوا متسامحين هي ثقافة مستعصية على توجه السماحة.. إذ إن المثال الأخلاقي للتسامح الذي يعلو على أي اعتبار يفترض في كل شخص القدرة على أن يكون مسؤولاً أخلاقياً.. وفي ظل السكينة العقائدية لهذه الخصلة الذميمة؛ الكراهية لايمكن أن تؤتي تجارب الآخرين كدروس تختار نهايتها كبداية تصحيح كما هو شأن العقلاء في مسيرتهم ضمن سيرورة التاريخ الزمانية.. ف"خلال القرن السادس عشر والنصف الأول من القرن السابع عشر كانت أوروبا قد تحولت إلى أرض يباب بفعل الحروب الدينية، ولقد جاءت حرب الثلاثين عاما التي بدأت باندلاع الثورة البوهيمية عام 1618 وانتهت عام 1648 لتنهي سلسلة من الحروب كانت أكثرها دماراً.. في تلك الحرب خسرت ألمانيا وحدها نصف سكانها" إن الحقيقة مصنوعة دائماً وليست طبيعية، تصنعها اللحظة وتسطرها عقول استمدت من الواقع وإحداثاته التصميم على التغيير للأفضل، لبلوغ مدارج أعلى على مستوى التسامح والأنسنة.. والدعوة للحوار والتعايش والتسامح لا يمكن أن تستنبت في بيئة طاردة للمساواة والعدالة والمحبة والفنون والجمال، فإما هذه أو تلك، والجمع بين نقيضين مستحيل.. وبعيداً عن أي انتماء آخر غير الأنسنة تهجر الولاءات المجرمة والبراءات الكاذبة.. فقتل إنسان هو قتل للإنسانية، وإحياء إنسان هو إحياء للإنسانية.. والدعوة للسياسيين بإنقاذ سورية والعراق واليمن من الولاءات المذهبية المجرمة هو إحياء لإنسانها..