الوجدان الشعبي الجماعي أذكى من أذكى الناس.. وأحكم من أحكم المعاصرين.. لأن هذا الوجدان الجماعي لا يشيع فيه ويذيع من الحكم والأمثال إلاّ ما صحّ معناه على مرِّ الزمان.. وبالتالي فإن الحكم الجماعي المتفق عليه أفضل وأصدق من حكم الفرد الواحد خاصة أن شعوب الأرض كافة تكاد تتفق على الحكم السائرة مع اختلاف اللهجات واللغات ومبنى الحكمة لكن المعنى واحد!.. وفي الغالب العام فإن كل حكمة تسير مسار الأمثال، وتصير عالقة في ذاكرات الأجيال، أما الأمثال فمنها ما هو حكمة، ومنها ما هو قول سائر ساخر أو له دلالة تتكرر في عدة مواقف وتستدعيه كما يستدعي المنظر الغريب المصور المحترف أو رسام الكاريكاتير. خذ ما تراه وخلّ عنك الخماكير... من شق ثوب الناس شقوا وزاره حين يقولون في أمثالنا الشعبية (مجنون وطِقّ بعصا) فهذه ليست حكمة بالطبع، لكنها مثل سائر تستدعيه عدة مواقف مثيرة أو غريبة التصرف شديدة الحماقة رد فعل صاحبها أضعاف أضعاف الفعل الأصلي الموجه له، فالإنسان السريع الغضب، الشديد الغيظ، لا يكاد يخطئ عليه قريب أو صديق بكلمة سهلة أو تصرف عابر حتى يثور كالمجنون (يثور في الراحة) كما يقول مثل آخر، فهو (كالبندق الخربانة) التي يريد صاحبها أن يصيد بها فتصيده وهو وَمثور في يده وتمزقها وقد تقطعها، والمعروف بسرعة الغضب مع شدته مثل تلك (البندق الخربانة) ليثور في نفسه ويتلف أعصابه وصحته ويفقد أقاربه وأصحابه وقد يطلق زوجته لأتفه الأسباب بسبب جنون الغضب ورعونة التصرف، وقد سأل سائل شيخاً فاضلاً فقال: إنني قد طلقت زوجتي في لحظة غضب شديد ولسبب تافه فهل يقع الطلاق؟! وأذكر أن فضيلة الشيخ أجاب: وهل رأيتَ أحداً يداك أوكتا وفوك نفخ يُطَلّق وهو (يقشم فصفص)! أو كما قال فضيلته، موضحاً للسائل خطورة الغضب وخطورة الطلاق وأن مزحه جد وأن رأي أكثر العلماء بوقوع طلاق الغاضب لأن الطلاق لا يقع أصلاً - في أكثر الأحوال - إلا في أوقات الغضب على الزوجة لا في حالات الرضا عنها والسرور بها والامتنان لها وبالتالي يجب أن يعرف الرجال أهمية الميثاق الغليظ الذي هو عقد الزواج فلا يكون مجالاً لتنفيس أي غضب ولا رد فعل غاضب عابر على موقف تافه، وفي هذا دعوة لضبط النفس وكظم الغيظ وعدم التفوه أو التصرف وقت الغضب فإن بعض الناس يكاد يفقد صوابه وأعصابه في أتفه المواقف، وأغلب هؤلاء سريع الغضب سريع الإفاقة من نوبة الغضب يُشبه الوجدان الشعبي غضبه بأنه (نار خوص) فنار الخوص تشتعل بسرعة عظيمة وتندلع ألسنتها في الهواء سواء ثم تخبو بسرعة عجيبة بعكس نار الغضا التي لا تشتعل لا ببطء شديد ولكنها حين تشتعل قد تستمر طول الليل! وعوداً إلى المثل السائر الوارد في العنوان: (طبخك يا الرفلا.. وكليه) فإنه كسائر الأمثال النابعة من وجدان الشعب وتجاربه الطويلة، له طيف واسع ينطبق على حالات كثيرة، ويربط النتيجة بالسبب، والسبب بالنتيجة في معنى منطقي مطرد.. فالذي يسيء العمل لن يظفر بمكافأة بل سيظفر بالتأنيب وربما العقوبة ولن يصل إلى النجاح بل سيصل إلى الفشل، وقس على ذلك أموراً كثيرة تربط النتيجة بالسبب وفق تجارب الواقع وبداهة المنطق، ويشبهه من الفصيح (إنك لن تجني من الشوك العنب) و(في الصيف ضيعتِ اللبن) و(يداك أوكتا وفوك نفخ)! وقصة هذا المثل أن رجلاً أرفل صمم على دخول البحر وهو لا يعرف السباحة فنفخ قربة ثم ربطها لكي ترفعه في الماء وتجعله يسبح ويطفح فلا يغرق، ولكنه (الآخر) كان أرفل فلم ينفخ القربة بما يكفي والأدهى أنه لم يربطها ربطاً محكماً ولهذا فحين توغل في البحر (نسّمت) القربة وابتدأ يصارع الموج في طريقه للغرق فصاح برجل على الشاطئ يستنجد به فلم يفعل هذا وإنما قال له: (يداك أوكتا وفوك نفخ) أنت الذي ربطع القربة ربطاً ضعيفاً ونفختها فتحمل نتيجة فعلك، ربما كان المستنجَد به لا يعرف السباحة أو يعرفها ولكنه يعرف مخاطر إنقاذ غريق ثقيل الوزن في بحر هائج عميق الغور! لكن هذا المثل قاسٍ في موقف قاتل.. شتان بين طبخ وغرق!! وطيف هذه الأمثال المتشابهة واسعة الدالالة كما قلنا، وينتقل من المادي للمعنوي، فمن ظلم الناس فلينتظر الانتقام، ومن أخطأ على الآخرين فليصبر على ردود أفعالهم والبادئ أظلم، ومن فرّط في المذاكرة والتحصيل فلا يلومن إلاّ نفسه في صالة الامتحان. يقول ابن لعبون: خذ ما تراه وخلّ عنك الخماكير من شق ثوب الناس شقوا وزاره في المأثور لمثله (أًبر على ما جاك!) و(ستاهل)! ويقول راشد الخلاوي: ومن تابع المشراق والكِنْ والذرا يموت ما حاشت يديه الفوايد ويقول الشاعر الفصيح: فلا تعجل على أحدٍ بظلمٍ فإنّ الظلم مرتعه وخيمُ ولحسان بن ثابت رضي الله عنه: وكم حافرٍ حفرة لامرئٍ سيصرعة البغي فيما احتفر ومع أن طيف الأمثال واسع الدلالة إلاّ أنه ينبغي التفريق بين من يعمل الشيء عن عمد وقصد (ياطا السريد عناد) وبين من يعمل الشيء عن جهل ورفالة (الرفلا هي الخرمَاء التي لا تجيد الطبخ ولا أعمال البيت لأن أمها مدللتها ولم تعلمها) فالأول يستحق العقاب، أما الجاهل أو غير القادر على الإتقان فينبغي التعامل معه برفق وتسامح وتعليمه الأسلوب الصحيح، وبالمناسبة فمعظم الرجال لا يثنون على المرأة حين تقدم لهم أشهى الأطباق بل يأكلون ولا يشكرونها كأن هذا هو المفروض ولو أخطأت مرة وخربت الطبخة صرخوا عليها وذموها وهذا ظلم.